المَسيحيّة والإسلام
1 إلى عُشّاق الحق - ليس الخطر أن يقومَ الصراع بين الحق والباطل، لكن الخطرَ أن يفقدَ الناس الإحساس بالفرق بين الحق والباطل. الى ذَوي الضمائِر الحَيَّة المُفَتِّشة عن دِينِ الله الحقيقي - الى جميع الذين يَنشدون الطريق والحَقّ والحَياة - أُقَدِّمُ هذا البَحث آمِلًا أن يهديَ الإنسانيّة طريقها الى الحضارة الجديدة التي تَلتَمِسُها في عصرٍ يَتَّحِد فيه الجِنسُ البَشَري إتِّحادًا أوثَق يومًا بعد يوم، وتنمو فيه العلاقات بين الشعوب المُختلِفة، آمِلًا أيضًا بتعزيز الوحدة والمَحَبَّة بين الناس والأُمَم، ومُتَفَحِّصًا هنا ما هو مُشتَرَك بين الناس ويقودُهم الى مَصير واحد. فكُلُّ الشعوب جماعة واحدة ولها أصل واحِد لأنّ اللهَ أسكَنَ الجِنسَ البَشَري بأسرِه على وَجهِ الأرض كُلِّها: "وَصَنعَ مِن دَمٍ وَاحِدٍ كُلَّ أُمَّةٍ مِنَ النَّاسِ يَسكُنُونَ عَلَى كُلِّ وَجهِ الأَرضِ... وحٙتٙمٙ بالأوقاتِ المُعٙيّٙنٙةِ وبِحُدودِ مٙسكٙنِهِم، لِكٙي يٙطلُبُوا اللهٙ لٙعٙلّٙهُم يٙتٙلٙمّٙسُونٙهُ، مع أٙنّٙهُ عٙن كُلِّ واحِدٍ مِنّٙا ليسٙ بٙعِيدًا". (أعمال ١٧/ ٢٦-٢٧). وفي القرآن الكريم نقرأ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِن نَفسٍ واحِدَةٍ وخَلَقَ مِنهَا زَوجَهَا وبَثَّ مِنهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا ونِسَاءً...). [النساء ١]. ولهم غاية أخِيرَة واحِدة وهي الله الذي يشملُ الجَميع بعِنايَتِه وتصاميم خلاصِه الى أن يتَّحِدَ المُختارون في المَدينةِ المُقَدَّسَةِ التي سيُنيرها مَجدُ الله وسَتَمشي الأُمَمُ هناك في نورِها: "وَالمَدِينَةُ لَا تَحتَاجُ إلَى الشَّمسِ وَلَا إِلَى القَمَرِ لِيُضِيئَا فِيهَا، لِأَنَّ مَجدَ اللهِ قَد أَنَارَهَا... وَتَمشِي شُعوبُ المُخَلَّصِينَ بِنُورِهَا... وَأَبوَابُهَا لَن تُغلَقَ نَهَارًا، لِأَنَّ لَيلًا لَا يَكُونُ هُنَاكَ... وَلَن يَدخُلَهَا شَيءٌ دَنِسٌ وَلَا مَا يَصنَعُ رَجِسًا وَكَذِبًا...". (رُؤيا يُوحَنَّا ٢١/ ٢٣-٢٧). وإنَّ طريقَ الإنسانِ الى مَحَبَّةِ الله هي في مَحَبَّتِه لأخيه الإنسان: "لَا يُؤمِنُ أَحَدُكُم حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفسِه". (حديث شريف).
2 الإنسان متعدّد والأصل الواحد.
القول بأن هناك تعدُّدًا في الأفراد والجماعات ليس إلّا اعترافًا بواقعنا المَوجود الذي خلقنا الله عليه، وهو لا يعني وجود مَن نختلف معه وإن تعدّدت آراؤنا وأفكارنا. فالأديان تقول لنا بأنّنا مِن عائلة بَشَريّة واحدة، وقد ورد في الإنجيل: (أنّ الخالق جعل الإنسان منذ البدء ذكرًا وأنثى)، وفي القرآن نقرأ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلنَاكُم شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللَّهِ أَتقَاكُم). فالواحد مِنّا في نظر الأديان يساويه غيره ويعادله في الإنسانية التي ننحدر فيها جميعنا مِن أصل واحد، وهي التي تشكّل مصدرًا للمساواة في الحقوق. فعندما نقول: نعيش مع غيرنا أو غيرنا يعيش معنا، فهذا يعني أننا شركاء في عيش واحد. وعندما نقول بأنّنا موجودون في هذه الأرض فهذا يعني بالمنظور الدِّيني أنّ الله خلقنا مِنها وأوجدنا عليها، كما ورد في العهد القديم مِن الكتاب المقدّس: (خَلَقَ الرَّبُّ الإِنسَانَ مِن تراب الأَرضِ) وكما أشار إلى ذلك أيضًا القرآن الكريم: (هُوَ أَنشَأَكُم مِنَ الأَرضِ وَاستَعمَرَكُم فِيهَا)، وهذا يعني وجود شريك لنا في العيش عليها، وأنّها مشتركة بيننا، وليست خاصّة ببعضنا. وفي هذه الحال تخاطبنا التعاليم الدينية الداعية للمساواة في الحقوق، كما جاء في الحديث الشريف: (أحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك واكره لغيرك ما تكره لنفسك)، وكما ورد في الإنجيل: (كل ما تريدون أن يعاملكم الناس به، فعاملوهم أنتم به أيضًا. هذه خلاصة تعاليم الشريعة والأنبياء). وحتمًا نحن نريد أن يعاملنا الناس بالحسنى، فيجب أن نعاملهم بمثلها، والدِّين هو المعاملة كما جاء مضمون بعض النصوص الدِّينِيّة.
3 في البَدء خَلَقَ الله الإنسان في الجنَّة. وهناك، عاش آدم وحوّاء بمُنتَهى السَّعادَة. ولكن بعدما طُرِدا مِن الفردوس، تدَهوَرَت الأوضاع بسُرعة وتأثَّر كل الجِنسَ البَشَري. فالأنانيَّة غذَّت العَداء، والحَسَد أضرَم الحِقد. وسادَت النِّزاعات؛ وانتَشَر الفَساد والفُجور إنتِشار الأوبِئة، فنَدَرَت المَحَبَّة وكادَ اللُّطف يختَفي. ونَجِد اليوم أنّ القِيمَ الأساسيّةَ قد انعَدَمَت في المُجتَمَع؛ وأمسَت العائلات المُتَّحِدَة والسَّعيدة أمرًا نادِرًا. تُؤَثِّرُ هذه المَآسي في كل فَرد في كل المُجتَمَعات، حتى في المُؤمنين بالله. وبالرغم مِن ذلك، فقد أوحى الله الى الإنسان بهُداه وكلَّمَ الأنبياء بأنواع وطُرُق كثيرة (عِبرانِيِّين ١/ ١). وزوَّد الوَصايا العَشر وأعطاها لموسى على لَوحَي حَجَرٍ مَكتوبَينِ بيَدِ اللهِ (خُروج ٣١/ ١٨). واستعمل اللهُ الرُّؤَى والأحلام، وكثيرًا ما أرسَلَ مَلائكته لينقلوا كلامَه. وفي حالات كثيرة أعطى الله لكَتَبَتِه المُلهَمين حُرِّيَّة اختيار الكلمات والتعابير لوَصف الرُّؤَى وكِتابَة رِسالاته. فاستعملوا أساليبَهم المُختَلِفة لنَقل هُداه الى البَشَر. ولكنّ اللهَ ضَبَطَ ووَجَّهَ ما يحدُث. وفَعَلَ ذلك لمَنع تَسَرُّب الأخطاء وليَضمَن صحَّة ودِقَّة الكِتابات وانسِجامها مع قصدِه.
4 الكنيسة تَنظرُ الى علاقتها بالمُجتمع نظرة مُتوازنة، وتنادي بأنّ الإنسان كيان واحد والإنجيل إنجيل واحد كامل كُتِبَ لخلاص الإنسان رُوحًا وجَسَدًا. وظيفة الدِّين إرشادية لا تعليمية. الإنسان يحتاج الى الحُرّيّة الرّوحيّة مِن الخطيّة، كما أنه يحتاج الى التحرير الكامل مِن الفقر ومِن الظلم ومِن الجهل، حتى يمكنه أن يستمتع بكل أبعاد الحياة الفُضلى في شخص المسيح، لتحويل حياة الأرض الى حياة السماء في كل المجالات. إن حاجة الإنسان اليوم هو الى دَور فاعل للكنيسة "الحجارة الحيّة" بالمشاركة في تنمية وممارسة المَحبّة في كل نواحي الحياة، مُصَلِّين: "لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض...". لذلك تنظر الكنيسة بعَين الإعتبار الى المُسلِمِين الذين يعبدون الإله الواحِد الأحَد، الحَيّ القَيُّوم، الرَّحمن الرَّحيم، الضابط الكل، خالِق السماء والأرض. والمُسلِمُون يجتهدون في أن يَخضَعوا لأوَامِرِ الله الخَفِيّة، كما يخضع له النبي إبراهيم، خليل الله، الذي يُسنَد إليه بطيبَة خاطر الإيمان الإسلامِي. وإنّهم يجِلُّون السيد المسيح كنبي عظيم ويُكرِمُون مريم العَذراء ويُفَضِّلونها على نِساء العالَمِين. علاوةً على ذلك، إنّهم ينتظرون يوم الدِّين، يوم القيامة والبَعث، وينتَظِرون عَودة المسيح الثانية ليحكم بالدِّين الحَقّ. ويُصَلِّي المَلايين مِنهم الى الله مِرارًا كل يوم، طالبين أن يهديَهم الى الصِراطِ المُستَقيم، ويبتهلون الى الله تعالى مع سورة الفاتحة عساهم يسمَعون الجَواب أيضًا في القرآن الكريم: (أُولٓئِكَ الَّذِينَ آتَينَاهُمُ الكِتَابَ وَالحُكمَ وَالنُبُوَّةَ... أُولٓئِكَ الَّذِين هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقتَدِه...). [الأنعام ٨٩-٩٠]، (...وَقُولُوٓا آمَنَّا بالَّذِيٓ أُنزِلَ إِلَينَا وَأُنزِلَ إِلَيكُم وَإِلَهُنَا وَإِلهُكُم وَاحِدٌ وَنَحنُ لَهُ مُسلِمُونَ). [العَنكَبوت ٤٦].
5 ما جاء في القرآن الكريم عن السيد المسيح والإنجيل والنّصارى، والكِتاب عامّة، مَفخرةً للمُسلِمِين والمَسيحِيِّين، فيليق بكلّ مُؤمن باللهِ واليومِ الآخِر أن يطّلعَ عليه. كثيرون مِن المُسلِمِين يَجهلون الكِتابَ المُقَدَّس، وكثيرون مِن المَسيحِيِّين لا يعرفون القرآن الكريم؛ ولو أنّ الجميعَ تعارفوا لتقاربوا وتصافحوا وتحابّوا ليصبحوا مُكَرَّمين عند الله بالتّقوى مِثلما جاء في القرآن الكَريم: (يَآ أَيُّها النَّاسُ إِنَّا خَلَقنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلنَاكُم شُعُوبًا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوآ إِنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللهِ أَتقَاكُم...). [الحُجُرات ١٣]. يَعيشُ المُسلِمُون والمَسيحِيُّون في الشّرق معًا. لذلك يجب عليهما أن يتفاهما؛ وآن لهما أن يفعلا. أقول هذا خاصّةً في هذا الزّمن العَصيب الّذي نُجاهد فيه لأجلِ تُراثِنا الرُّوحي، لكي نُحافِظَ على كيانِنا، وأُرسله نِداءً حارًّا لكلّ الّذين يُؤمنون باللهِ واليومِ الآخِر كي يتَمَسَّكوا بحَجَرِ الزّاوية هذا.
6 وما أحوجنا في عصرِ المادّة الذي نجتازه، تجاه تيّار الإِلحاد الجارف، أن نتذكّرَ هذه الحقيقة الجَوهَريّة، ونجعَلَها رابطةً لنا دِينيّة وقَومِيّة في هذا الشّرق مَوطن الوَحي ومَهبط الرُّوح. ونشكر الله: "...مُخٙلِّصِنا الله، الَّذِي يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخلُصُونَ، وَإِلَى مَعرِفَةِ الحَقِّ يُقبِلُونَ". (تِيموثاوس الأُولى ٢/ ٣-٤). في الوقت الحاضر الّذي يَنتصرُ فيه الإلحاد والمادِّيَّة، الأمر الذي في خَطَر هو القِيَم الرّوحانيّة الدِّينيّة، أي الإيمان بالله، والتَّقوى، ومَكارم الأخلاق، وليس وُجُود الإسلام أو المَسيحِيَّة كدِيانة. كلّ العقائد استعارات لشوقٍ واحد، وكلّ الصلوات نداءات بصيغٍ مختلفة، وكلّ الأسماء المقدّسة تُشير إلى مصدرٍ واحد.
7 فالإيمان بالله مُشتَرَك بين جميع المُؤمنين، الى أيَّة طائفة ينتمون، وهو أساس القِيَم الرّوحانيّة الأدَبيّة الّتي يَرتكِزُ عليها التّقدُّم الإنساني والّتي تضمنُ بِناء مُجتمع تَسودُ فيه العَدالة والأُخُوَّة. فالقرآن الكريم يُخاطبُ النّاسَ جَميعًا: (قل يَآ أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيكُم جَمِيعًا...). [الأَعراف ١٥٨] وأحيانًا يُخاطِبُ المُؤمِنين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا...) ولكي يَتعارفَ المُؤمِنون ويَتفاهَموا ويَتقارَبوا، عليهم أن يَفتحوا حِوارًا دِينيًّا بَينَهم، للبَحث عن الحَقّ والحَقيقة ولخِدمة الحَقّ الّذي أَوحى اللهُ به على أنبيائه: "كُلُّ الكِتَابِ هُوَ مُوحًى بِهِ مِنَ اللهِ، وَنَافِعٌ لِلتَّعلِيمِ وَالتَّوبِيخِ، لِلتَّقوِيمِ وَالتَّأدِيبِ الَّذِي فِي البِرِّ، لِكَي يَكُونَ إِنسَانُ اللهِ كَامِلًا، مُتَأَهِّبًا لِكُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ". (تِيموثاوس الثّانية ٣/ ١٦-١٧).
8 بالإضافة الى ذلك، الإيمان هو الثقة بما يُرجَى والإيقان بأمور لا تُرَى. والإيمان يجب أن يكونَ عِلميًّا كما قال العالِم الكبير آينشتاين: "إنّ الإيمانَ هو أقوى وأنبل نتائج البُحوث العِلمِيّة، إنَّ الإيمانَ بلا عِلم ليمشي مشية الأعرَج، وإنَّ العِلمَ بلا إيمان ليتلمَّس تلَمُّس الأعمى". يقول القرآن الكريم: (...إِنَّمَا يَخشَى اللهَ مِن عِبَادِهِ العُلَمَاءُ...). [فاطِر ٢٨]. ومع ذلك، فإنّ القولَ الذي لا يُمكن إثباته ليس بالضرورة غير صحيح. في هذا المَجال، قال بُولس في رسالته إلى أهل تَسَالُونِيكِي: "وَلِكَي نُنقَذَ مِنَ النَّاسِ الأَردِيَاءِ الأَشرَارِ. لِأَنَّ الإيمَانَ لَيسَ لِلجَمِيعِ". (تَسَالُونِيكِي الثانية ٣/ ٢). إذن الإيمان لا يعني سُرعة التصديق. ويُعَلِّم الكتاب المُقَدَس: "إِقتَرِبُوا إِلَى اللهِ فَيَقتَرِبَ إِلَيكُم. نَقُّوا أَيدِيَكُم أَيُّهَا الخُطَاةُ، وَطَهِّرُوا قُلُوبَكُم يَا ذَوِي الرَّأيَينِ". (رسالة يعقوب ٤/ ٨)، "...الرَّبُّ مَعَكُم مَا كُنتُم مَعَهُ، وَإِن طَلَبتُمُوهُ يُوجَد لَكُم، وَإِن تَرَكتُمُوهُ يَترُكُكُم". (أخبار الأيّام الثاني ١٥/ ٢)، "إِتَّكِل عَلَى الرَّبِّ وَافعَلِ الخَيرَ. أُسكُنِ الأَرضَ وَارعَ الأَمَانَةَ. وَتَلَذَّذ بِالرَّبِّ فَيُعطِيَكَ سُؤلَ قَلبِكَ. سَلِّم لِلرَّبِّ طَرِيقَكَ واتَّكِل عَلَيهِ وَهُوَ يُجرِي". (مَزمور ٣٧/ ٣-٥)، "لِكَي يَطلُبُوا اللهَ لَعَلَّهُم يَتَلَمَّسُونَهُ فَيَجِدُوهُ، مَعَ أَنَّهُ عَن كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا لَيسَ بَعِيدًا". (أعمال ١٧/ ٢٧). وفي القرآن الكريم نقرأ: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَليَستَجِيبُوا لِي وَليُؤمِنُوا بِي لَعَلَّهُم يَرشُدُونَ). [البقرة ١٨٦].
9 وعلى المُؤمنين، مُسلِمِين كانوا أم مَسيحِيِّين، أن يَتَذكَّروا أنّهم شهودٌ للهِ في هذا العَالَم: "...أَنتُم شُهُودٌ عَلَى أَنفُسِكُم أَنَّكُم قَد اختَرتُم لِأَنفُسِكُمُ الرَّبَّ لِتَعبُدُوهُ...". (يَشوع ٢٤/ ٢٢)، "أَنتُم شُهُودِي، يَقُولُ الرَّبُّ، وَعَبدِي الَّذِي اختَرتُهُ، لِكَي تَعرِفُوا وَتُؤمِنُوا بِي وَتَفهَمُوا أَنِّي أَنَا هُوَ. قَبلِي لَم يُصَوَّر إِلَهٌ وَبَعدِي لَا يَكُونُ. أَنَا أَنَا الرَّبُّ، وَلَيسَ غَيرِي مُخَلِّصٌ". (إشٙعياء ٤٣/ ١٠-١١)، "...أَلَيسَ أَنَا الرَّبُّ وَلَا إِلهَ آخَرَ غَيرِي؟ إِلَهٌ بَارٌّ وَمُخَلِّصٌ. لَيسَ سِوَايَ. إِلتَفِتُوا إِلَيَّ وَاخلُصُوا يَا جَمِيعَ أَقاصِي الأَرضِ، لِأَنِّي أَنَا اللهُ وَلَيسَ آخَرَ. بِذَاتِي أَقسَمتُ، خَرَجَ مِن فَمِي الصِّدقُ كَلِمَةٌ لا تَرجِعُ: إِنَّهُ لِي تَجثُو كُلُّ رُكبَةٍ، يَحلِفُ كُلُّ لِسَانٍ". (إشَعياء ٤٥/ ٢١-٢٣). هذه هي شهادة التّوحيد في المَسيحِيَّة وقد جاءت على لسان موسى كليم الله: "إِسمَع يَا إِسرَائِيلُ الرَّبُّ إِلَهُنَا رَبٌّ وَاحِد". (تَثنية ٦/ ٤). وَأَكَّدَهَا السيد المسيح في إنجيل مَرقُس: "...إِنَّ أَوَّلَ كُلِّ الوَصَايَا هِي: إِسمَع يَا إِسرَائِيلُ. الرَّبُّ إِلَهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ... اللهُ وَاحِدٌ وَلَيسَ آخَرُ سِوَاهُ". (مَرقُس ١٢/ ٢٩-٣٢)، "...أَنتَ الإِلهَ الحَقِيقِيَّ وَحدَكَ وَيَسُوعَ المَسِيحَ الَّذِي أَرسَلتَهُ..". (يوحنا ١٧/ ٣)، "...لَنَا أَبٌ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ". (يوحنا ٨/ ٤١)، "...لَيسَ أحَدٌ صَالِحًا إلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ". (متى ١٩/ ١٧). وأخيرًا كرَّرَها بُولس في رسالته إلى أهل كورِنثوس: "...وَأَن لَيسَ إِلَهٌ آخَرُ إِلَّا وَاحِدًا... لَكِن لَنَا إِلَهٌ وَاحِدٌ...".(كُورِنثوس الأُولى ٨/ ٤-٦). إنّ شهادةَ التّوحيد هذه تتطابَق تمامًا مع الرُّكنِ الأوَّلِ في الإسلام: {أَشهَدُ أَن لَآ إِلَهَ إِلَّا الله}، (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَآ إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلَآئِكَةُ وَأُولُوا العِلمِ قَآئِمًا بِالقِسطِ لَآ إِلَهَ إِلَّا هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ). [آل عِمران ١٨]، (...وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا القُرآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُم لَتَشهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخرَى قُل لَا أَشهَدُ قُل إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيٓءٌ مِمَّا تُشرِكُونَ). [الأَنعام ١٩]، (وَإِذ أَوحَيتُ إِلَى الحَوَارِيِّينَ أَن آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوٓا آمَنَّا وَاشهَد بِأَنَّنَا مُسلِمُونَ) [المائدة ١١١]، (قُل يَآ أَهلَ الكِتَابِ تَعَالَوا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَينَنَا وَبَينَكُم أَلَّا نَعبُدَ إِلَّا اللهَ...). [آل عِمران ٦٤].
10 بالإضافة إلى ذلك، يقول تلميذ المسيح بُطرس: "وَأَمَّا أَنتُم فَجِنسٌ مُختَارٌ، وَكَهَنُوتٌ مُلُوكِيٌّ، أُمَّةٌ مُقَدَّسَةٌ، شَعبُ اقتِنَاءٍ، لِكَي تُخبِرُوا بِفَضَائِلِ الَّذِي دَعَاكُم مِنَ الظُّلمَةِ إِلَى نُورِه العَجِيبِ. الَّذِينَ قَبلًا لَم تَكُونُوا شَعبًا ،وَأَمَّا الآنَ فَأَنتُم شَعبُ اللهِ. الَّذِينَ كُنتُم غَيرَ مَرحومِينَ، وَأَمَّا الآنَ فَمَرحمونَ". (رسالة بُطرس الأُولى ٢/ ٩). والقرآنُ الكريم يُخاطِبُ المُسلِمِين: (كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَتَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤمِنُونَ بِاللهِ...). [آل عِمران ١١٠].
11 وحَول وُجوب الإيمان باللهِ وبكُتُبهِ يُشَدِّدُ القرآن الكريم بقَولِه: (...وَالمُؤمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَينَ أَحَدٍ مِن رُسُلِهِ...). [البَقَرَة ٢٨٥] ويُخبرُ القرآن الكريم أيضًا عَنِ المُتَّقين: (ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيبَ فِيهِ هُدًى لِلمُتَّقِينَ... وَالَّذِينَ يُؤمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُم يُوقِنُونَ). [البَقَرَة ٢-٤]. فماذا تعني هنا عِبارة (وَمَا أُنزِلَ مِن قَبلِكَ)؟ الأسفار المُقَدَّسة هي كُتُب الله. وقد سَبَقَت القرآن الكريم، وهو يَتَحَدَّثُ عنها تكرارًا ويُشَدِّدُ على أنّها تَحتَوي هُدَى الله: (نَزَّلَ عَلَيكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَينَ يَدَيهِ وَأَنزَلَ التَّورَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنزَلَ الفُرقَانَ...). [آل عِمران ٣-٤]. ويُشَجِّعُ القرآن الكريم على الرُّجُوعِ إلى هذه الكُتُب: (وَسأَل مَن أَرسَلنَا مِن قَبلِكَ مِن رُسُلِنَا...). [الزُّخرُف ٤٥]، (فَإِن كُنتَ في شَكٍّ مِمَّآ أَنزَلنَآ إِلَيكَ فَسأَلِ الَّذِينَ يَقرَأُونَ الكِتَابَ مِن قَبلِكَ...). [يُونُس ٩٤]. وماذا يَعني الإيمان بكُتُبِ الله؟ إنّه يعني طَبعًا أكثر مِن مُجَرَّدِ الإعتراف بوُجودِها. فالإيمانُ الحَقيقي يَشملُ قِراءَتها والإطّلاع على مُحتوياتها والعَمَل بمُوجبِ مَضمونها.
12 فالقرآن الكريم لا يتَحدّث عن شَخصِ مُحَمَّد(ص)، إنّه كِتابٌ يَتعَلَّقُ باللهِ رَبِّ العَالَمِين، ويَشتَمِلُ على المَبادِئ والقِيَم والتّشريع والعِبادات، والتي كان دَور مُحَمَّد فيها هو دَور المُبَلِّغ: (وما على الرسول إلّا البلاغ....). القرآن الكريم كِتاب يهيبُ بالإنسانِ إلى التّفكير، وليس نُورًا يُنيرُ للإنسانِ مَعنى الحياة والموت فحَسب، ولكنّه دَليلٌ أيضًا لكلّ مَجالات الحَياة الشَّخصِيّة والإجتِماعِيّة، فنَجِدُ فيه مَبادئ السُّلوك لرَئيسِ الدَّولَةِ وللمُواطِنِ العادي، للفُقراءِ والأغنياءِ، للسِّلمِ والحَرب، ومِن أجلِ البَحثِ عن حياةٍ رُوحيّةٍ، أو في التجارة ورفاهيّة العَيش. ونجد فيه أُسُسًا يُمكنُ أن نُقيمَ عليها نظامًا مَتينًا للعَدالةِ الإجتِماعِيّةِ والإقتصادِيّةِ والسِّياسِيّةِ، والتَّشريع والحُقوق والعَلاقات الدُّوَليّة...
13 ونقرأ في أوّلِ سِفر التَّكوين أنّ اللهَ خلقَ السماوات والأرض. ثمّ نقرأ: "وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلَهُ آدَمَ تُرَابًا مِنَ الأَرضِ، وَنَفَخَ فِي أَنفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفسًا حَيَّةً. وَغَرَسَ الرَّبُّ الإِلَهُ جَنَّةً فِي عَدنٍ شَرقًا، وَوَضَعَ هُنَاكَ آدَمَ الَّذِي جَبَلَهُ. وَأَنبَتَ الرَّبُّ الإِلَهُ مِنَ الأَرضِ كُلَّ شَجَرَةٍ شَهِيَّةٍ للنَّظَرِ وَجَيِّدَةٍ لِلأَكلِ، وَشَجَرَةَ الحَيَاةِ فِي وَسطِ الجَنَّةِ، وَشَجَرَةَ مَعرِفَةِ الخَيرِ وَالشَّرِّ...". (تكوين ٢/ ٧-٩). والقرآن الكريم يُؤَكِّدُ ذلك: (الَّذِي أَحسَنَ كُلَّ شَيءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ... ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُوحِهِ...). [السَّجدَة ٧-٩]، (وَقُلنَا يَآ آدَمُ اسكُن أَنتَ وَزَوجُكَ الجَنَّةَ وَكُلَا مِنهَا رَغَدًا حَيثُ شِئتُمَا وَلَا تَقرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ). [البَقَرَة ٣٥]. وبعد ذلك يَروي لنا سِفر التَّكوين أنَّ الشّيطانَ إقتَرَبَ مِن حَوَّاء مُستَخدِمًا حَيَّةً وأغواها فعَصَت الله بأكلِها مِن الشَّجَرَةِ المُحَرَّمَة. وبَعدئذٍ حَثَّت حَوَّاءُ زَوجَها آدم أن يُشارِكَها العصيان. وفي ما بعد، أخرجَ اللهُ آدمَ وزوجَتَه مِنَ الجَنَّةِ لأنَّهُما تَمَرَّدا على اللهِ بملءِ إرادتهما وعَصَيَا مَشيئَتَه لَهُما. (تكوين ٣). وهذا ما يُؤَكِّده القرآن الكريم: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيطَانُ عَنهَا فَأَخرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلنَا اهبِطُوا بَعضُكُم لِبَعضٍ عَدُوٌّ وَلَكُم فِي الأَرضِ مُستَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلى حِينٍ... قُلنَا اهبِطُوا مِنهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأتِيَنَّكُم مِنِّي هُدًى...). [البَقَرَة ٣٦-٣٨]، (فَقُلنَا يَآ آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوجِكَ فَلَا يُخرِجَنَّكُمَا مِنَ الجَنَّةِ فَتَشقَىٓ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعرَى وَأَنَّكَ لَا تَظمَؤُا فِيهَا وَلَا تَضحَى فَوَسوَسَ إِلَيهِ الشَّيطَانُ قَالَ يَآ آدَمُ هَل أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الخُلدِ وَمُلكٍ لَا يَبلَى فَأَكَلَا مِنهَا فَبَدَت لَهُمَا سَوءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخصِفَانِ عَلَيهِمَا مِن وَرَقِ الجَنَّةِ وَعَصَىٓ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى). [طه ١١٧-١٢١؛ الأَعراف ١٩-٢٧].
14 ولكنَّ اللهَ خَلَقَ الإنسانَ على صُورَتِه إنسانًا كامِلًا (تكوين ١/ ٢٦-٢٧)، ونقرأ في الإنجيل: "فكونوا أنتم كاملين كما أن الله هو كامل". (متى ٥/ ٤٨)، وفي رسائل بولس نقرأ: "لكي يكون إنسان الله كامِلًا مُتَأهِّبًا لكُلِّ عَمَلٍ صالِح". (تيموثاوس الثانية ٣/ ١٧). وهذا ما أكَّدَه القرآن الكريم: (لَقَد خَلَقنَا الإِنسَانَ فِي أَحسَنِ تَقوِيمٍ). [التِّين ٤]، (الَّذِي أَحسَنَ كُلَّ شَيءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ... ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُوحِهِ...). [السَّجدَة ٧-٩]، (...إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن صَلصَالٍ مِن حَمَإٍ مَسنُونٍ فَإِذَا سَوَّيتُهُ وَنَفَختُ فِيهِ مِن رُوحِي...). [الحِجر ٢٨-٢٩]. وعندما خَلق الله الإنسان وَهَبَه صِفَة الإرادة الحُرَّة وما تبعَها مِن مَسؤُوليّة: (...إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم...). [الرَّعد ١١]، وكان الإنسان قادرًا كامِلًا على إطاعةِ الله والبَقاء بالتالي في الجَنَّةِ إلى الأبَد. وخارجُ الجَنَّةِ عَرفَ آدمُ وحَوَّاء الشَّقاء والقَلَق والأَلَم وقاسيَا المَرَض، الشّيخوخة والموت. وهكذا مات آدم وحَوَّاء. وفَقَدَ الإنسانُ الجَنَّةَ الَّتي زالَت لاحِقًا في الطُّوفان أيَّام نوح. ولكن بسَبَبِ قَوانين الوِراثة، نقلَا الى ذُرِّيَّتِهما الخَطيئة والمٙوت فصارت كلّ نفسٍ ذائقة المٙوت في ما بعد، كما هو مَكتوب في الكتاب المُقَدَّس وفي القرآن الكريم: (كُلُّ نَفسٍ ذَائِقَةُ المَوت...ِ). [العَنكَبوت ٥٧]، "...النَّفسُ الَّتِي تُخطِئُ هِيَ تَمُوت". (حِزقِيال ١٨/ ٤)، "...بِإِنسَانٍ وَاحِدٍ (آدم) دَخَلَتِ الخَطِيئَةُ إِلَى العَالَمِ، وَبِالخَطِيئَةِ المَوتُ، وَهَكَذا اجتَازَ المَوتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، إِذ أَخطَأَ الجَمِيعُ". (رُومية ٥/ ١٢).
15 ولكن هل فشلَ قصدُ اللهِ الأصلي للإنسانِ أن يعيشَ إلى الأبَد في الجَنَّة؟ حاشا الله أن يفشلَ. وعندما نتَمَعَّنُ في صِفاتِه الحَميدَة والحُسنَى يُمكننا أن نُعَزِّزَ مَعرِفَتَنا له ونَفهَمَ طُرُقَ مُعالَجَته الأُمور. إنّ للهِ عِدَّة صِفات حُسنَى. فهو كامل في الحِكمة والقُدرَة والعَدل. وهو أيضًا رحمن ورحيم: "...الرَّبُّ إِلَهٌ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ بَطِيءُ الغَضَبِ وَكَثِيرُ الإِحسَانِ وَالوَفَاءِ... غَافِرُ الإِثمِ وَالمَعصِيَةِ وَالخَطِيئَةِ. وَلَكِنَّهُ لَن يُبرِئَ إِبرَاءً...". (خُروج ٣٤/ ٦-٧)، "...إِنَّ جَمِيعَ سُبُلِهِ عَدلٌ. إِلَهُ أَمَانَةٍ لَا جَورَ فِيهِ. صِدِّيقٌ وَعَادِلٌ هُوَ". (تَثنية ٣٢/ ٤)، "الَّذِي يَغفِرُ جَمِيعَ ذُنُوبِكَ. الَّذِي يَشفِي كُلَّ أَمرَاضِكَ... الَّذِي يُكَلِّلُكَ بالرَّحمَةِ والرَّأفَةِ... الرَّبُّ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ، طَوِيلُ الرُّوحِ وَكَثِيرُ الرَّحمَةِ". (مَزمور ١٠٣/ ٣-٨).
16 إذَن المَحَبَّة والرَّحمَة والعَدل هم مِن صِفاتِ اللهِ البارِزَة: "وَمَن لَا يُحِبُّ، لَم يَعرِفِ اللهَ، لِأَنَّ اللهَ مَحَبَّةٌ". (رسالة يُوحَنَّا الأُولى ٤/ ٨)، "لِأَنَّ كَلِمَةَ الرَّبِّ مُستَقِيمَةٌ، وَكُلَّ صُنعِهِ بِالأَمَانَةِ. يُحِبُّ البِرَّ وَالعَدلَ. إِمتَلَأَتِ الأَرضُ مِن رَحمَةِ الرَّبِّ". (مَزمور ٣٣/ ٤-٥). ونقرأ في القرآن الكريم: (...وَرَحمَتِيَ وَسِعَت كُلَّ شَيءٍ...). [الأعراف ١٥٦]. وأيضًا تشيرُ الأسفارُ المُقَدَّسة الى اللهِ بطرائق كثيرة، مثل: "الله القَدِيرُ، الخَالِقُ، إِلَهُ الحَقِّ، الإِلَهُ الحَيُّ القَيُّومُ، العَلِيُّ، القُدُّوسُ...". (إشَعياء ١٠/ ٢١؛ جامعة١٢/ ١؛ مَزمور ٣١/ ٥؛ دانيال ٦/ ٢٦؛ مَزمور ١٨/ ١٣؛ إشَعياء ٥/ ٢٤). وكُلّ هذه الأسماء الحُسنى وَرَدَت في القرآن الكريم في آياتٍ وسُوَرٍ عَديدةٍ نَذكُرُ أهَمّها: (...هُوَ الرَّحمَنُ الرَّحِيمُ... المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلَامُ المُؤمِنُ المُهَيمِنُ العَزيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ... هُوَ اللهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسمَآءُ الحُسنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ). [الحَشر ٢٢-٢٤]، (وَلِلَّهِ الأَسمَآءُ الحُسنَى فادعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلحِدُونَ فِيٓ أَسمَآئِهِ...). [الأَعراف ١٨٠]، (قُلِ ادعُوا اللهَ أَوِ ادعُوا الرَّحمَنَ أَيًّا مَا تَدعُوا فَلَهُ الأَسمَآءُ الحُسنَى...). [الإِسراء ١١٠]. ومِثلما وَرَدَ في مَزمور النبي داود: "...الَّذِي يَشفِي كُلَّ أَمرَاضِكَ". (مَزمور ١٠٣/ ٣)، كذلك وَرَدَ في القرآن الكريم: (وَإِذَا مَرِضتُ فَهُوَ يَشفِينِ). [الشُّعَراء ٨٠].
17 وخارج الجَنّة برَزَت الخَطيئةُ أكثر أيضًا في شكلِ جَريمَةٍ وشَرّ. فبالرّغم مِن تحذيرِ الله، قَتَل بِكرُ آدم، قايين (قابيل)، أخاه هابيل (تكوين ٤/ ٣-٨)، وهذا ما أكّده القرآن الكريم: (فَطَوَّعَت لَهُ نَفسُهُ قَتلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصبَحَ مِنَ الخَاسِرِينَ). [المائدة ٣٠]. ومَرَّت السُّنُون وازدادَ الشَرُّ بينَ النّاس. وبوَاسِطَةِ نوح حَذَّرَ اللهُ النّاسَ مِنَ الطُّوفانِ العَالَمِي الوَشيك. فشَيَّدَ نوح فُلكًا تحتَ توجيهِ الله فكانَ ذلك الفُلك الوَسيلة الوَحيدة للنّجاة مِن الطُّوفان (تكوين ٦). وفي القرآن الكريم نقرأ: (وَقَومَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغرَقنَاهُم وَجَعَلنَاهُم لِلنَّاسِ آيَةً وَاعتَدنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا). [الفُرقان ٣٧].
18 وبعد الطُّوفان بسِنينٍ عديدةٍ، وُلِدَ إبراهيم في بِلاد ما بين النّهرَين. وكان بين قَومٍ يَعبُدون الأصنام، القَمَر، والكواكِب. وحتَّى تارٙحٙ أبا إبراهيم نفسه كان قد عَبدَ آلِهةً وَثَنِيَّةً (يَشوع ٢٤/ ٢). أمّا إبراهيم فآمَنَ باللهِ وكانَ مُستعِدًّا لإطاعَتِهِ (تكوين ١٢/ ١-٥). كان إبرَاهيمُ عَبدًا بارًّا لله. فاتَّخَذَ اللهُ إِبرَاهِيمَ خَلِيلًا (إشَعياء ٤١/ ٨) فصارَ إبراهيم يُدعَى "خَلِيلَ اللهِ". (رسالة يعقوب ٢/ ٢٣). وكذلك وَرَد في القرآن الكريم: (...وَاتَّخَذَ اللهُ إِبرَاهِيمَ خَلِيلًا). [النِّساء ١٢٥]. أمّا الإمتحان الأكبر لإيمانِ إبراهيم فَحَدَث عندما طَلَبَ اللهُ مِنه أن يُقدِّمَ إبنَه ذَبيحة. لم يَتَرَدَّد إبراهيم في إطاعةِ الله، وفي اللّحظةِ الحاسِمَةِ، عندما أخَذَ إبراهيمُ السِّكِّينَ ليَذبحَ إبنَه، أمَرَه مَلاكُ الرَّبِّ بالتَوَقُّف (تكوين ٢٢/ ١٠-١٢). ولكي تُقَدَّمَ الذَّبيحَة، دَبَّرَ اللهُ كبشًا، وعندما رآهُ إبراهيم، أخَذَه وقدَّمَه محرقةً للهِ بدلًا مِن إبنِهِ (تكوين ٢٢/ ١٣). وهذا ما يُؤَكِّدُهُ القرآن الكريم: (وَفَدَينَاهُ بِذِبحٍ عَظِيمٍ). [الصَّافَّات ١٠٧].
19 وبعد ذلك أرسَلَ اللهُ نَبِيَّهُ مُوسَى لِيُخرِجَ بَنِي إِسرَائيل مِن أرضِ مصر حيث استُعبدوا هناك وعُرِفَ مُوسى بِـ "كَليمِ اللهِ". (خُروج ١٩/ ١٩). وفي القرآن الكريم نقرأ: (...وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكلِيمًا). [النِّساء ١٦٤]. ومع أنّ أنبياءً كثيرون نالوا رُؤًى مِنَ اللهِ، كان موسى يَتَكَلَّمُ مُباشَرةً مع الله في أيّ وقت. وصارَ موسى وَسِيط عَهد قَطَعَه الله مع بَنِي إسرائيل. وهذا العَهد أكَّدَ الوَعد الذي قُطِعَ لإبراهيم. جَعَلَ الله موسى يَكتُبُ شرائعه وَوَصاياه (تُدعَى النّاموس) وهذا النّاموس يتألّفُ مِن نحو ٦٠٠ وَصِيّة، بما فيها الوَصايا العَشر الشّهيرة وهي "لَوحَي حَجَرٍ مَكتُوبَينِ بِيَدِ اللهِ". (خُروج ٢٠/ ١-١٧؛ ٢٤/ ١٢ ؛ ٣١/ ١٨؛ ٣٢/ ١٦). وفي القرآن الكريم نقرأ: (...كِتَابُ مُوسَىٓ إِمَامًا وَرَحمَةً...). [هُود ١٧]، (وَكَتَبنَا لَهُ فِي الأَلوَاحِ مِن كُلِّ شَيءٍ مَوعِظَةً وَتَفصِيلًا لِكُلِّ شَيءٍ فَخُذهَا بِقُوَّةٍ وَأمُر قَومَكَ يَأخُذُوا بِأَحسَنِهَا سَأُورِيكُم دَارَ الفَاسِقِينَ). [الأَعراف ١٤٥]، (وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُوسَى الغَضَبُ أَخَذَ الأَلوَاحَ وَفِي نُسخَتِهَا هُدًى وَرَحمَةٌ لِلَّذِينَ هُم لِرَبِّهِم يَرهَبُونَ). [الأَعراف ١٥٤].
20 وهذه الوَصايا العَشر وَرَدَت في القرآن الكريم: [الإِسراء ٢٢-٣٥؛ الفُرقان ٦٨-٧٢؛ الأَنعام ١٥١-١٥٢]. وأهمّ وَصايا النّاموس هي: الرَّبُّ إِلَهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ، لَا يَكُن لَكَ آلِهَةٌ أُخرَى. هذه هي الوَصيّة الأُولى. والوَصيّة الثّانية هي أن يُحِبَّ المَرءُ قَرِيبَهُ كَنَفسِهِ مِثلما جاء في الحَديثِ الشريف: "لَا يُؤمِنُ أَحَدُكُم حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفسِه". وبالفِعل، لقد نَظَّمَت وَصايا الله وشرائعه التي أعطاها لموسى علاقة الإنسان بأخيهِ الإنسان وشدَّدَت أنّ الدافعَ وراء كل شيء يجب أن يكونَ المَحَبَّة (لاويِّين ١٩/ ١٧-١٨؛ مَرقُس ١٢/ ٢٩-٣١؛ مَتَّى ٢٢/ ٣٦-٤٠). كان الناموسُ حٙافِلًا بالإرشادات والنصائح للمُؤمنين الحَقيقيّين. وقد شملَت شرائعه كلّ أوجه حياتهم الدِّينيّة، البِيئِيّة، القَضائيّة، والتِّجاريّة. لذلك لم يكن النّاموس بِحَدِّ ذاته الغاية بل الوَسيلة لإِتمام قصد الله.
21 ومَرَّت السُّنُون واستَمَرَّ إنحرافُ البَشَرِ عن هُدَى الله في تسبيبِ الفَسَاد والحروب والكراهِيَّة والمُنازعات والخِلافات والحِقد والتعذيب، والقتل دون رَحمة، والرَّذائل والمُنكَر بينَ الناس في كل أنحاء الأرض بَرًّا وبَحرًا مِثلما جاء في القرآن الكريم: (ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحرِ بِمَا كَسَبَت أَيدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُم يَرجِعُونَ). [الرُّوم ٤١]. فكانت الحاجَة مَاسَّة الى بُشرى وكيف كان يُمكِنُ أن يَعودَ الإنسانُ إلى الجَنَّة؟ نَجِدُ الجَوابَ في الإنجيل، الكلمة التي تَعني "بشارة". وقد سُمِّي كذلك لأنّه يَحتَوي على أخبار مُفرِحة.
22 فما هي هذه الأخبار؟ أرسَلَ اللهُ المَلاكَ جِبريل إلى عذراءٍ إسمها مَريَم ليُبَشِّرَها بالمسيح: "فَقَالَت مَريَمُ لِلمَلَاكِ: كَيفَ يَكُونُ هَذَا وَأَنَا لَستُ أَعرِفُ رَجُلًا؟ فَأَجَابَ المَلَاكُ وَقَالَ لَهَا: الرُّوحُ القُدُسُ يَحِلُّ عَلَيكِ، وَقُوَّةُ العَلِيِّ تُظَلِّلُكِ... لِأَنَّهُ لَيسَ شَيءٌ غَيرَ مُمكِنٍ لَدَى اللهِ. فَقَالَت مَريَمُ: هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُن لِي كَقَولِكَ... مُبَارَكةٌ أَنتِ فِي النِّسَاءِ وَمُبَارَكةٌ هِيَ ثَمَرَةُ بَطنِكِ... فَهُوَذَا مُنذُ الآنَ جَمِيعُ الأَجيَالِ تُطَوِّبُنِي، لِأَنَّ القَدِيرَ صَنَعَ بِي عَظَائِمَ، وَاسمُهُ قُدُّوسٌ، وَرَحمَتُهُ إِلَى جِيلِ الأَجيَالِ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَهُ...". (لُوقا ١/ ٣٤-٥٠). وجاءَ في القرآن الكريم: (وَاذكُر فَي الكِتَابِ مَريَمَ إِذِ انتَبَذَت مِن أَهلِهَا مَكَانًا شَرقِيًّا فَاتَّخَذَت مِن دُونِهِم حِجَابًا فَأَرسَلنَآ إِلَيهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا قَالَت إِنِّيٓ أَعُوذُ بِالرَّحمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَآ أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (أَي طَاهِرًا مِنَ الذُّنُوبِ) قَالَت أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَم يَمسَسنِي بَشَرٌ وَلَم أَكُ بَغِيًّا قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمرًا مَقضِيًّا...). [مَريَم ١٦-٢١]، (إِذ قَالَتِ المَلَائِكَةُ يَا مَريَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنهُ اسمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ابنُ مَريَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ المُقَرَّبِينَ). [آل عِمران ٤٥]، (وَإِذ قَالَتِ المَلَآئِكَةُ يَا مَريَمُ إِنَّ اللهَ اصطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ العَالَمِينَ). [آل عِمران ٤٢]، (وَالَّتِيٓ أَحصَنَت فَرجَهَا فَنَفَخنَا فِيهَا مِن رُوحِنَا (رُوحِ اللهِ) وَجَعَلنَاهَا وابنَهَآ آيَةً لِلعَالَمِينَ). [الأنبياء ٩١]، (...إِنَّما المَسِيحُ عِيسَى ابنُ مَريَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلقَاهَآ إِلَى مَريَمَ وَرُوحٌ مِنهُ...). [النِّساء ١٧١] وأيضًا ذَكَرَ القرآن الكريم: (...وَآتَينَا عِيسَى ابنَ مَريَمَ البَيِّنَاتِ (المُعجِزَاتِ) وَأَيَّدنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ...). [البَقَرَة ٨٧]، (...وَأُبرِئُ الأَكمَهَ وَالأَبرَصَ وَأُحيِي المَوتَى بإِذنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُم...). [آل عِمران ٤٩]، (إِذ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ...). [آل عِمران ٥٥]، (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَومَ وُلِدتُ وَيَومَ أَمُوتُ وَيَومَ أُبعَثُ حَيًّا). [مَريَم ٣٣].
23 كلّ ذلك يُعَبِّرُ عن جَوهر الدِّين واللّاهوت المَسيحي في بِدايَة إنجيل يُوحَنَّا: "فِي البَدءِ كَانَ الكَلِمَةُ، وَالكَلِمَةُ كَانَ عِندَ اللهِ، وَكَانَ الكَلِمَةُ اللهَ... وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعطَاهُم سُلطَانًا أَن يَصِيرُوا أَبنَاءَ اللهِ، أَي المُؤمِنُونَ بِاسمِه... وَالكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَينَنَا...". (إنجيل يُوحَنَّا ١/ ١-١٤). وهذا يقابله في القرآن الكريم: (...فَأَرسَلنَآ إِلَيهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا). [مَريَم ١٧]. ولكن هل يمكن أن يُقالَ إِنَّ المسيحَ إبنُ الله؟ حاشا أن يكونَ للهِ إبنٌ نتيجة علاقة مع امرأة أو أن يتزوجَ ويُنجبَ أولادًا. فالله (...لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ). [الشُّورَى ١١]. إذًا لماذا تُستَعمَل عبارة "إِبن اللهِ"؟ مثلًا: "...آدَمُ إِبنُ اللهِ". (لُوقا ٣/ ٣٨) فكيف يَكونُ ذلك؟ تُوضِحُ التّوراة: "وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلَهُ آدَمَ تُرَابًا مِنَ الأَرضِ، وَنَفَخَ فِي أَنفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفسًا حَيَّةً". (تكوين ٢/ ٧). فآدم دُعي إبن الله لأنّ حَياتَه أتَت مِن اللهِ دُون أبَوَين بَشَرِيَّين.
24 وبشكل مُماثل، يُدعَى المسيح إبن الله، لأنَّ حياتَه أتَت مِن اللهِ مُباشَرةً. لا يمكن أن يكون المقصود مِن عبارة "إبن الله" المستخدمة بحق المسيح معنى حقيقيًّا، لأن ذلك سيتعارض مع إطلاق عبارة "إبن الإنسان" وعبارة "إبن داود" كثيرًا على المسيح أيضًا، إذ مِن البديهي أنّه لا يمكن للشخص الواحد نفسه أن يكون إبنًا لأبَوَين بالمعنى الحقيقي. إنّ إستخدام عبارة "إبن الله" في الأناجيل يُقصَد بها معنى الصالح البار الوثيق الصلة بالله والمتَخَلِّق بأخلاق الله. فقد جاء في إنجيل مرقس (15/ 39): "ولمّا رأى قائد المائة، الواقف مقابله، أنه صرخ هكذا، وأسلم الروح، قال: حقًّا كان هذا الإنسان إبن الله". هذا الموقف نفسه أورده لوقا في إنجيله فنقل عن قائد المائة أنه قال عن المسيح: "بالحقيقة كان هذا الإنسان بارًّا"، فما عبَّر عنه مرقس في إنجيله بعبارة "إبن الله" عبَّر عنه لوقا بعبارة "بارًّا"، مِمّا يبيّن أن المراد مِن عبارة "إبن الله" ليس إلّا كونه بارًّا صالحًا. إنّ لقب "إبن الله" جاء بعينه، في الإناجيل، في حق كل بارٍّ صالح غير المسيح، كما استعمِلت عبارة "إبن إبليس" في حق الإنسان الفاسد الطالح.
25 ونقرأ في القرآن الكريم: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ). [آل عِمران ٥٩]. كما أنّه جائز في اللغة أن تُستَعمَلَ كلِمة "إبن" إستعمالًا مَجازيًّا. مثلًا، يُقال: "إبنُ القَرية - إبنُ المَدينة - أبناء بيروت"، "إبنُ اللّغة" للمُتَحَدِّثِ بها، "إبن حلال"، إبن حرام"... وهذه العِبارات لا تعني طَبعًا أنّ القريةَ أو المَدينةَ أو اللُّغةَ أنجَبَت أولادًا بالزّواج! وهكذا تدعو سُورة البَقَرَة المُسافر: "إبن السَّبِيل". [البَقَرَة ١٧٧]. وهنا أيضًا لا يقول أحدٌ أنّ السّبيلَ أو الطريقَ تزوّج! وبشكلٍ مُمَاثلٍ، عندما تَرِدُ في القرآن الكريم عِبارات مِثل "وَجه الله"، "يَد الله"، أو "استَوَى عَلَى العَرشِ". [البَقَرَة ١١٥؛ الفَتح ١٠؛ الأَعراف ٥٤]، فإنّها عادَةً لا تُفهَم حَرفيًّا. ولا يَعترِضُ كلّ العُلَمَاء المُسلِمِين على إستعمالِ عِبارة "إبن الله" في الإنجيل. فالإِمام أبو حامِد الغزالي وإبن قتيبة كلاهما قبلاها على سبيل المَجَاز.
26 والحقيقة أن إستخدام تعبير الإبن والوَلَد بالمعنى المجازي هو مِن الإستخدامات الشائعة في كل لغة، فمثلًا في لغتنا العربية العامّيّة كثيرًا ما نقول هذا "إبن حلال" أو ذاك "إبن حرام"، أو نقول هذا "إبن مصلحة"، أو نقول "يا أبناء مدينة كذا..." وبديهي أنه لا شيء مِن الحلال أو الحرام أوالمصلحة أو المدينة يلد بالمعنى الحقيقي، وإنّما المقصود هو نوع مِن الصلة بين ما سُمِّيَ إبنًا وما جُعِلَ أبًا له، وكذلك كان في اللغة القديمة. لذلك نجد في العهد الجديد هذا التوسّع في الإستخدام المجازي للَفظ "الإبن" واضحًا. ففي إنجيل متى مثلًا (23/15) يطلق المسيح على المستحق لدخول النار عبارة: "إبن جهنم"، وعلى أهالي أورشليم عبارة "أولاد أورشليم". (متى:23/37)، وعلى أهل هذه الدنيا عبارة "أبناء الدهر" (لوقا: 20/34)، وعلى المستحقّين لعالَم القيامة والحياة الأبدية الجديدة عبارة:"أبناء القيامة". (لوقا: 20/36)، كما أن بولس يخاطب في رسالته إلى أهل تسالونيكي (5/5) أهالي تلك المدينة فيقول: "جميعكم أبناء نور وأبناء نهار".
27 وقد جاء في بعض رسائل العهد الجديد ما يوضح هذا المجاز أشدّ الإيضاح ولا يترك فيه أي مجال للشك أو الإبهام. فقد جاء في رسالة يوحنا الأولى (5 /1ـ2) قوله: "كل مَن يؤمن أن يسوع هو المسيح فقد وُلِدَ مِن الله. وكل مَن يحبّ الوالِد يحبّ المولود مِنه أيضًا. بهذا نعرف أننا نحبّ أولاد الله إذا أحببنا الله وحفظنا وصاياه". وفي آخِر هذه الرسالة: "نعلم أن كل مَن وُلِدَ مِن الله لا يخطئ بل المولود مِن الله يحفظ نفسه والشرّير لا يمسّه". 5/18. وأيضًا في الإصحاح الثالث مِن نفس تلك الرسالة، يقول يوحنا: "كل مَن هو مولود مِن الله لا يفعل خطيَّة لأن زرعه يثبت فيه ولا يستطيع أن يخطئ لأنّه مولود مِن الله، بهذا أولاد الله ظاهرون وأولاد إبليس...". رسالة يوحنا الأولى: 3/ 9ـ10.
28 أمّا قول المسيح في الإنجيل: "أنا والآب واحِد" فهذه الوحدة هي وحدة مجازيّة أيضًا أي الإتّحاد بالهدف والغرض والإرادة، وهذا ظاهر جدًّا مِن قوله: "ليكونوا هم أيضًا واحدًا فينا". وقوله: "ليكونوا واحدًا كما أنّنا نحن واحد، أنا فيهم وأنتَ فيَّ ليكونوا مكمّلين إلى واحد"، حيث دعى الله تعالى أن تكون وحدة المؤمنين مع بعضهم البعض مثل وحدة المسيح مع الله، ولا شك أن وحدة المؤمنين مع بعضهم البعض وصيروتهم واحدًا ليست بأن ينصهروا مع بعض ليصبحوا إنسانًا واحدًا جسمًا وروحًا، بل المقصود أن يتّحدوا مع بعضهم بتوحيد إرادتهم ومشيئتهم ومحبّتهم وعَمَلهم وغرضهم وهدفهم وإيمانهم... أي هي وحدة معنويّة، فكذلك الوحدة المعنوية بين الله والمسيح الذي دعا الله لوحدة المؤمنين ليس مع بعضهم البعض فحسب بل مع المسيح ومع الله أيضًا، بحيث تجعل الجميع واحدًا. فلو كانت وحدة المسيح مع الله هنا تجعل منه إلهًا، لكانت وحدة الحواريين مع المسيح ومع الله تجعل منهم آلهة أيضًا. ويلزم مِن ذلك أن المسيح يدعو الله تعالى أن يجعل تلاميذه آلهة.
29 وخطور ذلك ـ كما يقول الإمام أبي حامد الغزالي ـ ببال مَن خلع ربقة العقل، قبيح، فضلًا عمّن يكون له أدنى خيار صحيح، بل هذا محمول على المجاز المذكور، وهو أن المسيح سأل الله تعالى أن يفيض عليهم مِن آلٓائه وعنايته وتوفيقه إلى ما يرشدهم إلى مراده اللائق بجلاله بحيث لا يريدون إلّا ما يريده ولا يحبّون إلّا ما يحبّه ولا يبغضون إلّا ما يبغضه، ولا يكرهون إلّا ما يكرهه، ولا يأتون مِن الأقوال والأعمال إلّا ما هو راض به، مؤثر لوقوعه، فإذا حصلت لهم هذه الحالة حسن التجوّز.
30 وقد جاء نحو هذا التعبير بالوحدة المجازية مع الله، عن بولس أيضًا في إحدى رسائله وهي رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس (6 / 16 ـ17) حيث قال: "أم لستم تعلمون أن مَن التصق بزانية هو جسد واحد لأنه يقول: يكون الإثنان جسدًا واحدًا؟ وأمّا مَن التصق بالرب فهو روح واحد"، وعبارة الترجمة العربية الكاثوليكية الجديدة: "ولكن مَن اتّحَدَ بالرب صار وإياه روحًا واحدًا". فكل هذا يثبت أن الوحدة هنا لا تفيد أن صاحبها هو الله تعالى بعينه وإنما هي وحدة مجازيّة كما بيّنا.
31 ويدلّ على صحّة ذلك أنّ إنسانًا لو كان له صديق موافق غرضه ومراده بحيث يكون محبًّا لما يحبّه ومبغضًا لما يبغضه كارهًا لما يكرهه، حسن أن يقال: أنا وصديقي واحد. ويتأكّد هذا المعنى المجازي لعبارة المسيح إذا لاحظنا الكلام الذي جاء قبلها، وأن المسيح كان يقول إن الذي يأتي إليّ ويتبعني أعطيه حياة أبدية ولا يخطفه أحد مِنّي، لأن أبي الذي هو أعظم مِن الكل هو الذي أعطاني أتباعي هؤلاء ولا أحد يستطيع أن يخطف شيئًا مِن أبي، أنا وأبي واحد، يعني مَن يتبعني يتبع في الحقيقة أبي لأنّني أنا رسوله وممثّل له وأعمل مشيئته فكلانا شيء واحد. وهذا ما ورد في الإنجيل: "...وَالكَلاَمُ الَّذِي تَسمَعُونَهُ لَيسَ لِي بَل لِلآبِ الَّذِي أَرسَلَنِي". (يوحنا ١٤/ ٢٤)، "...هذِهِ الأَعمَالُ بِعَينِهَا الَّتِي أَنَا أَعمَلُهَا هِيَ تَشهَدُ لِي أَنَّ الآبَ قَد أَرسَلَنِي". (يوحنا ٥/ ٣٦). وهذا مِثل قوله تعالى عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: "مَن يطع الرسول فقد أطاع الله". هنا قصد الوحدة المجازيّة واضح جدًّا.
32 ويشبه هذا في الإسلام ما جاء في الحديث القدسي الشريف الصحيح الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إن الله تعالى يقول: "...وما يزال عَبدي يتقرّب إليَّ بالنوافل حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت سَمعه الذي يسمع به وبَصَره الذي يبصر به ويَده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها...". ولا شك أنه ليس المقصود مِن الحديث أن الله تعالى يحلّ بكل جارحة مِن هذهذ الجوارح، أو أنه يكون هذه الجوارح بعينها، بل المقصود أنّه لمّا بذل العبد أقصى جهده في عبادة الله وطاعته، صار له مِن الله قدرة ومعونة خاصّتين، بهما يقدر على النطق باللّسان، والبطش باليَد. وفق مراد الله عزّ وجلّ وطبق ما يشاؤه الله تعالى ويحبّه.
33 وفي التراث الإسلامي ـ مثلًا: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "أهل القرآن أهل الله وخاصّته". فليس المراد بعبارة "أهل الله" معناها الحقيقي لأن أهل الشخص: هم عشيرته وذوو قرباه، والله تعالى يتنزّه عن العشيرة وذوي القربى والصاحبة والولَد، بل هذه إستعارة تشبيهيّة المراد منها أن أهل القرآن هم أحباب الله وأولياؤه ومقرّبوه، الذين لهم مِن الله عناية خاصة ومحبة وثيقة كالتي تكون بين المرء وأهله وذوي قرباه.
34 بالإضافة إلى ذلك، يقول "الحَديث الشَّريف" في كتاب "صَحِيح البُخاري" عن السيد المسيح إنَّه الوَحيد الذي لم يمسّه الشيطان: "كُلُّ بَنِي آدَمَ يَطعَنُ الشَّيطَانُ فِي جَنبَيهِ بِإصبعِهِ حِينَ يُولَدُ إِلَّا عِيسَى بن مَريَمَ ذَهَبَ يَطعَنُ فَطَعَنَ فِي الحِجَاب". وعلاوةً على ذلك لم يأتِ السيد المسيح لينقضَ شريعة موسى والأنبياء بل ليكَمِّلَها (مَتَّى ٥/ ١٧). وهو لم يُكَمِّل فقط حَرفَ الناموس، بل أيضًا الرُّوح وراءه. وكذلك جاء في القرآن الكريم: (...اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم وَأَتمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتِي...). [المائدة ٣].
35 وفي مَجالٍ آخَر، يذكرُ القرآن الكريم شخصًا "عِندَه عِلمٌ مِنَ الكِتَابِ" في سُورة [النَّمل ٤٠]. في تفسيرِ هذه السُورة، يقول "تفسير الجَلالَين": "هُوَ آصفَ بنَ بَرَخيَا كَانَ صِدِّيقًا يَعلَمُ إِسمَ اللهِ الأَعظَم الَّذِي إِذَا دَعَا بِهِ أُجِيب". فمن هو آصفَ بنَ بَرَخيَا هذا الذي كان يَعلَمُ إِسمَ اللهِ الأعظم؟ كثيرًا ما يَنصَحُ القرآن الكريم بالرُّجوعِ إلى كُتُبِ اللهِ المُقَدَّسة للحصولِ على الأجوبة: (وَسأَل مَن أَرسَلنَا مِن قَبلِكَ مِن رُسُلِنَا...). [الزُخرُف ٤٥]، (فَإِن كُنتَ في شَكٍّ مِمَّآ أَنزَلنآ إِلَيكَ فَسأَلِ الَّذِينَ يَقرَأُونَ الكِتَابَ مِن قَبلِكَ...). [يُونُس ٩٤]، (وٙمٙآ أٙرسٙلنا قٙبلٙكٙ إِلّٙا رِجٙالًا نُوحِيٓ إِلٙيهِم فَسأَلُوا أَهلَ الذِّكرِ إِن كُنتُم لَا تَعلَمُونَ). [الأنبياء ٧]. وتُخبرنا هذه الكُتُب المُقَدَّسة أنّ آسافَ بنَ بَرَخيا هو الذي كَتَبَ بالوَحي المَزمور ٨٣ (أخبار الأيّام الأُولى ١٥/ ١٧؛ مَزمور ٨٣/ العُنوان).
36 أمّا بالنسبة الى تعاليم السيد المسيح، فقد شَدَّدَت على المَبادئ بدَلًا مِن الشَّرائع والوَصايا التفصِيليّة. فما يَجب تَجَنُّبه لم يَكن الأعمال الخاطِئة وحَسب، بل أيضًا المَواقِف التي تؤدِّي إليها. فعَن الزِّنى مثلًا، قال: "...إِنَّ كُلَّ مَن يَنظُرُ إِلَى امرَأَةٍ لِيَشتَهِيَهَا، فَقَد زَنَى بِهَا فِي قَلبِهِ". (مَتَّى ٥/ ٢٨). ولقد وَرَدَ في الحَديث الشريف: "العَينُ تَزنِي". وعَنِ القَتل ذكَرَ السيد المسيح: "قَد سَمِعتُم أَنَّهُ قِيلَ لِلقُدَمَاءِ لَا تَقتُل، وَمَن قَتَلَ يَكُونُ مُستَوجِبَ الحُكمِ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُم إِنَّ كُلَّ مَن يَغضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلًا يَكُونُ مُستَوجِبَ الحُكمِ...". (مَتَّى ٥/ ٢١-٢٢). وفي القرآن الكريم نقرأ: (وَمَا كَانَ لِمُؤمِنٍ أَن يَقتُلَ مُؤمِنًا إِلَّا خطَأً... وَمَن يَقتُل مُؤمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا). [النِّساء ٩٢-٩٣].
37 وعن الأعمال الصالحة، قال السيد المسيح: "فَإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ سَوفَ يَأْتِي فِي مَجدِ أَبِيهِ مَعَ مَلاَئِكَتِهِ، وَحِينَئِذٍ يُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ عَمَلِهِ". (متى ١٦/ ٢٧). وقال يعقوب في رسالته: "وَلكِنْ هَل تُرِيدُ أَنْ تَعلَمَ أَيُّهَا الإِنْسَانُ البَاطِلُ أَنَّ الإِيمَانَ بِدُونِ أَعمَال مَيِّتٌ؟" (يعقوب ٢/ ٢٠)، "لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الجَسَدَ بِدُونَ رُوحٍ مَيِّتٌ، هكَذَا الإِيمَانُ أَيضًا بِدُونِ أَعمَال مَيِّتٌ." (يعقوب ٢/ ٢٦). وفي القرآن الكريم نقرأ: (وَقُلِ ٱعمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [التوبة ١٠٥]
38 ودانَ السيد المسيح كذلك رِياءَ الناس الذين يَتباهون بتَقواهم المَزعومة. فعَنِ الصَّدَقةِ قالَ: "إِحتَرِزُوا مِن أَن تَصنَعُوا صَدَقَتَكُم قُدَّامَ النَّاسِ لِكَي يَنظُرُوكُم، وَإِلَّا فَلَيسَ لَكُم أَجرٌ... فَمَتَى صَنَعتَ صَدَقَةً فَلَا تُصَوِّت قُدَّامَكَ بِالبُوقِ، كَمَا يَفعَلُ المُرَاؤُونَ فِي المَجَامِعِ وَفِي الأَزِقَّةِ، لِكَي يُمَجَّدُوا مِنَ النَّاسِ... فَمَتَى صَنَعتَ صَدَقَةً فَلَا تُعَرِّف شِمَالَكَ مَا تَفعَلُ يَمِينُكَ، لِكَي تَكُونَ صَدَقَتُكَ فِي الخَفَاءِ...". (مَتَّى ٦/ ١-٤). وهذا يقابله في القرآن الكريم: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَموَالَهُم فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لَا يُتبِعُونَ مَآ أَنفَقُوا مَنًّا وَلَآ أَذًى لَهُم أَجرُهُم عِندَ رَبِّهِم وٙلٙا خٙوفٌ عٙلٙيهِم وٙلٙا هُم يٙحزٙنُون قَولٌ مَعرُوفٌ وَمَغفِرَةٌ خَيرٌ مِن صَدَقَةٍ يَتبَعُهآ أَذًى... يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ النَّاسِ...). [البَقَرَة ٢٦٢-٢٦٤]، (إِن تُبدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخفُوهَا وَتُؤتُوهَا الفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيرٌ لَكُم وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِن سَيِّئَاتِكُم وَاللهُ بِمَا تَعمَلُونَ خَبِيرٌ). [البَقَرَة ٢٧١].
39 وعَنِ الصلاة عَلَّمَ السيد المسيح: "وَحِينَمَا تُصَلُّونَ لَا تُكَرِّرُوا الكَلامَ بَاطِلًا كَالأُمَمِ، فَإِنَّهُم يَظُنُّونَ أَنَّهُ بِكَثرَةِ كَلَامِهِم يُستَجَابُ لَهُم. فَلَا تَتَشَبَّهُوا بِهِم. لِأَنَّ اللهَ يَعلَمُ مَا تَحتَاجُونَ إِلَيهِ قَبلَ أَن تَسأَلُوهُ". (مَتَّى ٦/ ٧-٨). وجاء في القرآن الكريم: (وَاستَعِينُوا بِالصَّبرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الخَاشِعِينَ). [البَقَرَة ٤٥]، (...وَلَا تَجهَر بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِت بِهَا وَابتَغِ بَينَ ذَلِكَ سَبِيلًا). [الإِسراء ١١٠]، (قَد أَفلَحَ المُؤمِنُونَ الَّذِينَ هُم فِي صَلَاتِهِم خَاشِعُونَ). [المُؤمِنون ١-٢]، (فَوَيلٌ لِلمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُم عَن صَلَاتِهِم سَاهُونَ الَّذِينَ هُم يُرَآءُونَ وَيَمنَعُونَ المَاعُونَ) [المَاعُون ٤-٧]. وهكذا نَرَى في تعاليمِ السيد المسيح وفي القرآن الكريم، أنَّ اللهَ يَستَجيبُ فَقَط الصَّلوات النابعَة مِنَ القلب، لا تِلك التي تُقالُ لمُجَرَّدِ التَّأثير في السَّامِعين وكَسب إعجابهم.
40 وماذا الآن عن طريقةِ الصلاة؟ فقد عَلَّمَ السيد المسيح: "فَصَلُّوا أَنتُم هَكَذَا: أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ اسمُكَ لِيَأتِ مَلَكُوتُكَ. لِتَكُن مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذلِكَ عَلَى الأَرضِ. خُبزَنَا كَفَافَنَا أَعطِنَا اليَومَ. وَاغفِر لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغفِرُ نَحنُ لِمَن أَسَاءَ إِلَينَا. وَلَا تُدخِلنَا فِي تَجرِبَةٍ، لَكِن نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ... فَإِنَّهُ إِن غَفَرتُم لِلنَّاسِ زَلَّاتِهِم، يَغفِر لَكُم أَيضًا أَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ. وٙإِن لٙم تٙغفِرُوا لِلناّٙسِ زٙلّٙاتِهِم، لٙا يٙغفِر لِكُم...". (مَتَّى ٦/ ٩-١٥). وجاء في القرآن الكريم: (...رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذنَآ إِن نَسِينَآ أَو أَخطَأنَا... وٙلٙا تُحٙمِّلنٙا مٙا لٙا طٙاقٙةٙ لٙنٙا بِهِ وَاعفُ عَنَّا وَاغفِر لَنَا وَارحَمنَا أَنتَ مَولَانَا...). [البَقَرَة ٢٨٦]، (...فَاعفُوا وَاصفَحُوا حَتَّى يَأتِيَ اللهُ بِأَمرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ). [البَقَرَة ١٠٩]، (...رَبَّنَآ فَاغفِر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّر عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبرَارِ). [آل عِمران ١٩٣]، (...لَا تَقنَطُوا مِن رَحمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزُّمَر ٥٣]، (...رَبَّنَا اغفِر لَنَا وَلِإِخوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجعَل فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ). [الحَشر ١٠]، (رَبَّنَا لَا تَجعَلنَا فِتنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغفِر لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ). [المُمتَحَنة ٥].
41 وعَن الصَومِ جاء في الكتاب المقدس: "فصُمنا وطلَلَبنا ذلك مِن إلهنا فاستَجابَ لنا". (عَزرا ٨/ ٢٣)، "...وصُمتُ وصَلَّيتُ أمامَ إلهِ السماءِ". (نَحَميا ١/ ٤)، "...ذَلَّلنا أنفُسَنا... في يومِ صَومِكُم توجِدونَ مَسَرَّةً... أَمِثلُ هذا يكونُ صَومٌ أختارُهُ؟ يومًا يُذَلِّلُ فيهِ نَفسَهُ... صَومًا أختارُهُ: حَلَّ قُيودِ الشَّرِّ. فَكَّ عُقَدِ النِّيرِ، وإطلاقَ المَسحوقينَ أحرارًا، وقَطعَ كُلِّ نيرٍ. أليسَ أن تَكسِرَ للجائعِ خُبزَكَ، وأن تُدخِلَ المَساكينَ التَّائهينَ إلى بَيتِك؟ إذا رأيتَ عُريانًا أن تَكسوهُ...". (إشَعياء ٥٨ /٣-٧)، "...في بيتِ الرَّبِّ في يَومِ الصَّومِ...". (إرميا ٣٦/ ٦)، "قَدِّسوا صَومًا. نادوا باعتِكافٍ. اجمَعوا الشُّيوخ...". (يوئيل ١/ ١٤)، "فقالَ كرنيليوس: مُنذُ أربَعَةِ أيّامٍ إلى هذهِ السّاعَةِ كُنتُ صائمًا...". (أعمال ١٠/ ٣٠)، "وبَينَما هُم يَخدِمونَ الرَّبَّ ويَصومونَ... فصاموا حينَئذٍ وصَلُّوا...". (أعمال ١٣/ ٢-٣)، "...لكَي تتَفَرَّغوا للصَّومِ والصَّلاةِ...". (كورِنثوس الأُولى ٧/ ٥). وفي القرآن الكريم جاء ما يلي: (يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ... وَأَن تَصُومُوا خَيرٌ لَكُم إِن كُنتُم تَعلَمُونَ). [البَقَرَة ١٨٣-١٨٤]، (...إِنِّي نَذَرتُ لِلرَّحمَنِ صَومًا فَلَن أُكَلِّمَ اليَومَ إِنسِيًّا) [مَريَم ٢٦]، (...ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمرِهِ...). [المائدة ٩٥].
42 وماذا الآن عن المَحَبَّة وهي أهَمّ الوَصايا في كل الرسالات السماويّة؟ لقد كانت المَحَبَّة المِحوَر الأساسي لتَعاليمِ السيد المسيح. وقد عَلَّمَ أنَّ كل مَطالِب الله يُمكن اختصارها في أعظم وَصِيَّتَين، لذلك قال: "...تُحِبُّ الرَّبَّ إِلَهَكَ مِن كُلِّ قَلبِكَ، وَمِن كُلِّ نَفسِكَ، وَمِن كُلِّ فِكرِكِ. هَذِهِ هِيَ الوَصِيَّةُ الأُولَى وَالعُظمَى. وَالثَّانِيَةُ مِثلُهَا: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفسِكَ. بِهَاتَينِ الوَصِيَّتَينِ يَتَعَلَّقُ النَّامُوسُ كُلُّهُ وَالأَنبِيَاءُ". (مَتَّى ٢٢ /٣٧-٤٠؛ لُوقا ١٠/ ٢٧؛ مَرقُس ١٢/ ٣٠-٣١). وكلمات السيد المسيح المَعروفَة بالقاعدة الذَّهَبيّة تُوضِحُ ما تَشمُلُهُ ثاني أعظم وَصِيّة: "فَكُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَن يَفعَلَ النَّاسُ بِكُم افعَلُوا هَكَذا أَنتُم أَيضًا بِهِم، لِأَنَّ هَذَا هُوَ النَّامُوسُ وَالأَنبِيَاءُ". (مَتَّى ٧/ ١٢، لُوقا ٦/ ٣١). لقد بَرَع السيد المسيح في تعليمِ طريق المَحَبَّة. فبِالكلامِ والعَمَل عَلَّمَ الآخَرين المَحَبَّة التي تَظهَرُ بالتضحية بالذات قائلًا: "وٙأٙمّٙا أٙنٙا فٙأٙقُولُ لٙكُم: أَحِبُّوا أَعدَاءَكُم. بَارِكُوا لَاعِنِيكُم. أَحسِنُوا إِلَى مُبغِضِيكُم، وَصَلُّوا لِأَجلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيكُم وَيَطرُدُونَكُم... وَالعَلِيُّ يُشرِقُ شَمسَهُ عَلَى الأَشرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمطِرُ عَلَى الأَبرَارِ وَالظَّالِمِينَ". (مَتَّى ٥/ ٤٤-٤٥).
43 وعن المحبة قال يوحنّا التلميذ الحبيب: "وَمَن لَا يُحِبُّ لَم يَعرِفِ اللهَ، لِأَنَّ اللهَ مَحَبَّةٌ". (رسالة يُوحَنَّا الأُولى ٤/ ٨). وكذلك عَلَّمَ النبي سُليمان: "...وَالمَحَبَّةُ تَستُرُ كُلَّ الذُنُوبِ". (أمثال ١٠/ ١٢). وأيضًا جاء في رسائل بُولس: "وَأَمَّا غَايَةُ الوَصِيَّةِ فَهِيَ المَحَبَّةُ مِن قَلبٍ طَاهِرٍ، وَضَمِيرٍ صَالِحٍ، وَإِيمَانٍ بِلَا رِيَاءٍ". (تِيموثاوس الأُولى ١/ ٥)، "وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ: مَحَبَّةٌ، فَرَحٌ، سَلَامٌ، طُولُ أَنَاةٍ، لُطفٌ، صَلَاحٌ، إِيمَانٌ، وَدَاعَةٌ، تَعَفُّفٌ...". (غَلاطِيَّة ٥/ ٢٢-٢٣)، "...العِلمُ يَنفُحُ، وَلَكِنَّ المَحَبَّةَ تَبنِي". (كُورِنثوس الأُولى ٨/ ١)، "إِن كُنتُ أَتَكَلَّمُ بِأَلسِنَةِ النَّاسِ وَالمَلاَئِكَةِ وَلكِن لَيسَ لِي مَحَبَّةٌ، فَقَد صِرتُ نُحَاسًا يَطِنُّ أَو صَنجًا يَرِنُّ. وَإِنْ كَانَتْ لِي نُبُوَّةٌ، وَأَعلَمُ جَمِيعَ الأَسرَارِ وَكُلَّ عِلمٍ، وَإِن كَانَ لِي كُلُّ الإِيمَانِ حَتَّى أَنقُلَ الجِبَالَ، وَلكِن لَيسَ لِي مَحَبَّةٌ، فَلَستُ شَيئًا. وَإِن أَطعَمتُ كُلَّ أَموَالِي، وَإِن سَلَّمتُ جَسَدِي حَتَّى أَحتَرِقَ، وَلكِن لَيسَ لِي مَحَبَّةٌ، فَلاَ أَنتَفِعُ شَيئًا. المَحَبَّةُ تَتَأَنَّى وَترفُقُ. المَحَبَّةُ لا تَحسِدُ. المَحَبَّةُ لا تَتَفَاخَرُ... وَلَا تَطلُبُ مَا لِنَفسِهَا، وَلَا تَحتَدُّ، وَلَا تَظُنُّ السُّوءَ، وَلَا تَفرَحُ بِالإِثمِ بَل تَفرَحُ بِالحَقِّ، وَتَحتَمِلُ كُلَّ شَيءٍ، وَتُصَدِّقُ كُلَّ شَيءٍ، وَتَرجُو كُلَّ شَيءٍ، وَتَصبِرُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ. المَحَبَّةُ لا تَسقُطُ أَبَدًا. وَأَمَّا النُّبُوَّاتُ فَسَتُبطَلُ، وَالأَلسِنَةُ فَسَتَنتَهِي، وَالعِلمُ فَسَيُبطَلُ.(كُورِنثوس الأُولى ١٣/ ١-٨)، "أَمَّا الآنَ فَيَثبُتُ: الإِيمَانُ وَالرَّجَاءُ وَالمَحَبَّةُ، هَذِهِ الثَّلَاثَةُ وَلَكِنَّ أَعظَمَهُنَّ المَحَبَّةُ". (كُورِنثوس الأُولى ١٣/ ١٣). وكذلك جاء في رسالة بُطرس: "طَهِّرُوا نُفُوسَكُم فِي طَاعَةِ الحَقِّ بِالرُّوحِ لِلمَحَبَّةِ الأَخَوِيَّةِ العَدِيمَةِ الرِّيَاءِ، فَأَحِبُّوا بَعضُكُم بَعضًا مِن قَلبٍ طَاهِرٍ بِشِدَّةٍ". (رسالة بُطرس الأُولى ١/ ٢٢). وقال أيضًا التلميذ الحبيب يُوحَنَّا: "إِن قَالَ أَحَدٌ: إِنِّي أُحِبُّ اللهَ وَأَبغَضَ أَخَاهُ، فَهُوَ كَاذِبٌ. لِأَنَّ مَن لَا يُحِبُّ أَخَاهُ الَّذِي أَبصَرَهُ، كَـيفَ يَقدِرُ أَن يُحِبَّ اللهَ الَّذِي لَم يُبصِرهُ؟". (رسالة يُوحَنَّا الأُولى ٤/ ٢٠).
44 أمَّا في الإسلام، فالمَحَبَّة هي أيضًا فَريضة على كل مُسلِم مِثلما جاء في الحَديث الشريف: "لَا يُؤمِنُ أَحَدُكُم حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفسِهِ". وفي القرآن الكريم نقرأ: (وَيُطعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إنَّما نُطعِمُكم لِوَجهِ الله لا نُريدُ مِنكم جَزاءً ولا شُكُورًا). [الإنسان ٨-٩]، (هَآ أَنتُم أُولَآءِ تُحِبُّونَهُم وَلَا يُحِبُّونَكُم وَتُؤمِنُونَ بِالكِتَابِ كُلِّهِ...). [آل عِمران ١١٩]، (لَّيسَ ٱلبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُم قِبَلَ ٱلمَشرِقِ وَٱلمَغرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلبِرَّ مَن ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱليَومِ ٱلأَخِرِ وَٱلمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّينَ وَءَاتَى ٱلمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِى ٱلقُربَىٰ وَٱليَتَٰمَىٰ وَٱلمَسَٰكِينَ وَٱبنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِى ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلمُوفُونَ بِعَهدِهِم إِذَا عَٰهَدُوا ۖ وَٱلصَّٰبِرِينَ فِى ٱلبَأسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلبَأْسِ ۗ أُولَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰٓئِكَ هُمُ ٱلمُتَّقُونَ). [البَقَرَة ١٧٧]. وعن المَحَبَّةِ يقولُ الله في القرآن الكريم: (...وَأَلقَيتُ عَلَيكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصنَعَ عَلَى عَينِيٓ). [طه ٣٩]. وفي موضع آخَر يقول القرآن الكريم عن المَوَدَّة بين الأعداء: (عَسَى اللهُ أَن يَجعَلَ بَينَكُم وَبَينَ الَّذِينَ عَادَيتُم مِنهُم مَوَدَّةً واللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ). [المُمتَحَنَة ٧]، (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34). (ادفع بالتي هي أحسن) أي: مَن أساء إليك فادفعه عنك بالإحسان إليه، كما قال عمر رضي الله عنه: ما عاقبت مَن عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه. وقوله: (فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) وهو الصديق، أي: إذا أحسنت إلى مَن أساء إليك قادته تلك الحسنة إليه إلى مصافاتك ومحبّتك، والحنوّ عليك، حتى يصير كأنه ولي لك حميم أي: قريب إليك مِن الشفقة عليك والإحسان إليك. بالإضافة إلى ذلك، يصير المسيء إليك الذي بينك وبينه عداوة، كأنه مِن ملاطفته إياك وبرّه لك، وليّ لك مِن بني أعمامك، قريب النسب بك، والحميم: هو القريب. [تفسير القرطبي والطبري]. والحَديث الشريف يقول: "إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفقَ، وَيُعطِي على الرِّفق ما لا يُعطي عَلى العُنفِ، وَما لا يُعطِي عَلى مَا سِوَاهُ". "إِنَّ الرِّفقَ لا يَكُونُ في شيءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلا يُنْزَعُ مِنْ شَيءٍ إِلَّا شَانَهُ". [رواه مسلم]. بالإضافة الى ذلك يقول أيضًا: "يَسِّرُوا وَلا تُعَسِّروا، وَبَشِّرُوا وَلا تُنَفِّرُوا".
45 وعن المحبة قال جبران خليل جبران: "أنتَ أخي وأنا أحبك. أحبك ساجدًا في جامعك وراكعًا في هيكلك، ومصليًا في كنيستك، فأنتَ وأنا ابنا دين واحد هو الروح..." وفي كتابه "النبي"، أوّل سؤآل سألَته المِترا للمصطفى المختار الحبيب، كان عن المحبة فأجاب قائلًا: إذا أشارت إليكم المحبة فاتبعوها...، وإذا ضمّتكم بجَناحَيها فأطيعوها...، وإذا خاطبتكم فصَدّقوها... المحبة تضمّكم الى قلبها كأغمار الحِنطة، وتدرسكم وتغربلكم وتطحنكم لكي تجعلكم أنقياء كالثلج. وتعجنكم بدموعها حتى تلينوا، ثم تعدّكم لنارها المقدّسة، لكي تصيروا خُبزًا مقَدّسًا يُقَرّبُ على مائدة الرّبّ المقَدّسة. المحبة لا تعطي إلّا نفسها، ولا تأخذ إلّا مِن نفسها. المحبة لا تملك شيئًا، ولا تريد أن يملكها أحد: لأن المحبة مُكتفية بالمحبة. أمّا أنت إذا أحبَبت فلا تقل: "إنّ اللهَ في قلبي"، بل قل بالأحرى: "أنا في قلب الله". أحبّوا بعضكم بعضًا، ولكن لا تقيّدوا المحبة بالقيود، بل لتكن المحبة بحرًا متمَوّجًا بين شواطئ نفوسكم. إن حاجات الإنسان تتبَدّل ولكن محبّته لا تتغيّر، ومثلها رغبته في أن تشبع المحبة حاجاته. وأخيرًا المحبة لا تعرف عمقها إلّا ساعة الفِراق.
46 وفي مجال آخَر، صَنَعَ السيد المسيح العجائبَ وأحيا المَوتى وبشَّرَ الناسَ بمَلكوت الله مُعطِيًا عِدَّة عَلامات تُشير الى "الأيَّامِ الأَخِيرَة" و"نِهَايَة الأَزمِنَة" مثلًا: حُروب لا مَثيل لها، مَجاعات شديدة ونقص في الأَغذية، أَوبئة، وزلازل كُبرى (مَتَّى ٢٤/ ٧). ولكن عندما يجري تنفيذ دينونة الله، مَن هم الذين سينجون؟ ومَنهم الذين لن ينجوا؟ في كتاب سِفر الأمثال للنبي سليمان نقرأ: "لِأَنَّ المُستَقِيمِينَ يَسكُنُونَ الأَرضَ، وَالكَامِلِينَ يَبقَونَ فِيهَا. أَمَّا الأَشرَارُ فَيَنقَرِضُونَ مِنَ الأَرضِ وَالغَادِرونَ يُستَأصَلُونَ مِنهَا". (أمثال ٢/ ٢١-٢٢). ونقرأ أيضًا في مَزمور النبي داود: "...أَمَّا نَسلُ الأَشرَارِ فَيَنقَطِعُ. الصِّدِّيقُونَ يَرِثُونَ الأَرضَ وَيَسكُنُونَها إِلَى الأَبَدِ". (مَزمور ٣٧/ ٢٨-٢٩). وفي القرآن الكريم نقرأ: (وَلَقَد كَتَبنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعدِ الذِّكرِ أَنَّ الأَرضَ يَرِثُها عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ). [الأنبياء ١٠٥].
47 وفي ظِلّ هذا المَلَكوت سَيَتَحَقَّقُ قصد الله أن تعودَ الأرضُ فردوسًا. لا حَرب ولا عُنف في ما بعد: "...لَا تَرفَعُ أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ سَيفَاً، وَلَا يَتَعَلَّمُونَ الحَربَ فِي مَا بَعدُ". (إشَعياء ٢/ ٤). وسَيَسُودُ السَّلام بين الإنسان والحيوان، وبين الحيوانات المُفتَرسة والحيوانات الداجِنة: "فَيَسكُنُ الذِّئبُ مَعَ الخَرُوفِ وَيَربُضُ النَّمِرُ مَعَ الجَديِ... وَصَبِيٌّ صَغِيرٌ يَسُوقُهَا. وَالبَقَرَةُ وَالدُّبَّةُ تَرعَيَانِ. تَربُضُ أَولَادُهُمَا مَعًا، وَالأَسَدُ كَالبَقَرِ يَأكُلُ تِبنًا. وَيَلعَبُ الرَّضِيعُ عَلَى سَرَبِ الصِّلِّ، وَيَمُدُّ الفَطِيمُ يَدَهُ عَلَى حُجرِ الأُفعُوَانِ". (إشَعياء ١١/ ٦-٨)، "الذِّئبُ وَالحَمَلُ يَرعَيَانِ مَعًا، وَالأَسَدُ يَأكُلُ التِّبنَ كَالبَقَرِ. أَمَّا الحَيَّةُ فَالتُّرَابُ طَعَامُهَا...". (إشَعياء ٦٥/ ٢٥). وفي هذا الإطار يُعطي "إبن كثير" وَصفًا مُشابِهًا. ففي تفسير سُورة النِّسٙاء يقول: "تَرتَعُ الأُسُودُ مَعَ الإِبِلِ وَالنُّمُورُ مَعَ البَقَرِ وَالذِّئَابُ مَعَ الغَنَمِ وَيَلعَبُ الصّبيَانُ بِالحَيَّاتِ وَلَا تَضُرُّهُم".
48 وفي عَالَمِ اللهِ الجَديدِ المَوعود به (الجَنَّة) سَيُزيلُ حُكمُ المَلَكوتِ المَرَضَ والشَّيخوخة: "حِينَئِذٍ تَتَفَتَّحُ عُيُونُ العُميِ وَآذَانُ الصُّمِّ تَتَفتَّحُ. حِينَئِذٍ يَقفِزُ الأَعرَجُ كَالإِيَّلِ وَيَتَرَنَّمُ لِسَانُ الأَخرَسِ، لِأَنَّهُ قَد انفَجَرَت فِي البَرِّيَّةِ مِيَاهٌ، وَأَنهَارٌ فِي القَفرِ". (إشَعياء ٣٥/ ٥-٦)، وفي رؤيا يوحنا نقرأ: "ثُمَّ رَأَيتُ سَمَاءً جَدِيدَةً وَأَرضًا جَدِيدَةً... وأنا رأيتُ المَدينةَ المُقَدَّسَةَ أُورُشَليمَ الجَديدَةَ نازِلَةٌ مِنَ السماءِ مِن عِندِ اللهِ... وسَمِعتُ صوتًا عظيمًا مِن السماء قائلًا: "هوذا مَسكَنُ اللهِ مع الناسِ، وهو سيَسكُنُ معهُم... وَسَيَمسَحُ اللهُ كُلَّ دَمعَةٍ مِن عُيُونِهِم، وَالمَوتُ لَا يَكُونُ فِي مَا بَعدُ، وَلَا يَكُونُ حُزنٌ وَلَا صُرَاخٌ وَلَا وَجَعٌ فِي مَا بَعدُ، لِأَنَّ الأُمُورَ الأُولَى قَد مَضَت. وَقَالَ الجَالِسُ عَلَى العَرشِ: "هَا أَنَا أَصنَعُ كُلَّ شَيءٍ جَدِيدًا". وقال لي: "اكتُبْ: فإنَّ هذه الأقوالَ صادِقَةٌ وأمينةٌ". (رُؤيا يُوحَنَّا ٢١/ ١-٥).
49 وكذلك جاء وَصف الجَنَّةِ في القرآن الكريم: (إِنَّ المُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ... يَدعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا المَوتَ إِلَّا المَوتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُم عَذَابَ الجَحِيمِ). [الدُّخان ٥١-٥٦]، (مَثَلُ الجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ فِيهَآ أَنهَارٌ مِن مَآءٍ غَيرِ آسِنٍ وَأَنهَارٌ مِن لَبَنٍ... وَأَنهَارٌ مِن عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُم فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ...). [مُحَمَّد ١٥]، (إِنَّ الأَبرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الأَرآئِكِ يَنظُرُونَ تَعرِفُ في وُجُوهِهِم نَضرَةَ النَّعِيمِ). [المُطَفِّفِين ٢٢-٢٤]، (وُجُوهٌ يَومَئِذٍ نَاعِمَةٌ لِسَعيِهَا رَاضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ). [الغَاشِية ٨-١٠].
50 ولِمَن وَعَدَ الله بهذه الجَنَّة؟ يقولُ القرآن الكريم: (إِنَّ اللهَ اشتَرَى مِنَ المُؤمِنِينَ أَنفُسَهُم وَأَموَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ... وَعدًا عَلَيهِ حَقًّا في التَّورَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالقُرآنِ وَمَن أَوفَى بِعَهدِهِ مِنَ اللهِ...). [التَّوبة ١١١]. ويؤكِّدُ القرآن الكريم أيضًا أنَّ الحُكمَ سيكون لأهلِ الإنجيل: (وَليَحكُم أَهلُ الإِنجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ اللهُ فِيهِ...). [المائدة ٤٧]، (وَقَفَّينَا عَلَىٓ آثَارِهِم بعِيسَى ابنِ مَريَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَينَ يَدَيهِ مِنَ التَّورَاةِ وَآتَيناهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَينَ يَدَيهِ مِنَ التَّورَاةِ وَهُدًى وَمَوعِظَةً لِلمُتَّقِينَ). [المائدة ٤٦]. إذَن وَعَدَ الله بهذهِ الجَنَّةِ المُؤمِنين مِن أهلِ التوراةِ والإنجيلِ والقرآن.
51 ويَا للفَرَحِ العَظيم الذي سَيَعمُّ الأرضَ عندما يعودُ المَوتى الى الحياةِ ليَنضَمُّوا مِن جديد الى أحِبّائهم! فَيَتمُّ حِينئذٍ وَعد السيد المسيح: "لَا تَتَعَجَّبُوا مِن هَذَا، فَإِنَّهُ تَأتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَسمَعُ جَمِيعُ الَّذِينَ فِي القُبُورِ صَوتَهُ، فَيَخرُجُ الَّذِينَ فَعَلُوا الصَّالِحَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الحَيَاةِ، وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الدَّينُونَةِ". (إنجيل يُوحَنَّا ٥/ ٢٨-٢٩). والآن، نحن نَتُوقُ طَبعًا إلى الوَقتِ الذي سيُتَمِّمُ فيهِ اللهُ مَواعيده. حينئذٍ سيغمرُنا الفَرَحُ إذ يجلُبُ السيد المسيح، نسل إبراهيم، البرَكات لأُناسٍ مِن كلِّ الأُمَم. نَعَم، إنّنا ننتَظرُ بفارغِ الصبر رُؤية الجَنَّةِ تُرَدُّ في كلّ الأرض.
52 واليوم، في هذه الأزمنة الصعبة، يجب أن نتوقّعَ أن يُوجدَ شَعبٌ واحِدٌ فقط يقبلُه اللهُ بصِفَتِهم عُبَّادَه الحقيقييّن. ونجد هذا الشعب حيث نجد الوَحدة الحَقيقيّة. فالله واحِد وهُداه واحِد - مُنسَجِم وغير مُتناقِض في التوراة والإنجيل كما في القرآن. والذين يَتبَعون هُدَى الله يُؤَلِّفُون هَيئَةً واحِدَةً مُوَحَّدَةً يُطَبِّقُ كلّ أفرادها مَبادئ الله البارَّة. ولا نجدُ بينهم الإنقسام أو التحامل بل الإنسِجام والمَحَبَّة الأخَويّة مع أنّهم يأتون مِن خَلفِيّات وقومِيّات ومَذاهِب وعُروق مُختلفة. في هذا المَجال، قال التلميذ الحبيب يُوحَنَّا: "إِن قَالَ أَحَدٌ: إِنِّي أُحِبُّ اللهَ وَأَبغَضَ أَخَاهُ، فَهُوَ كَاذِبٌ. لِأَنَّ مَن لَا يُحِبُّ أَخَاهُ الَّذِي أَبصَرَهُ، كَـيفَ يَقدِرُ أَن يُحِبَّ اللهَ الَّذِي لَم يُبصِرهُ؟". (رسالة يُوحَنَّا الأُولى ٤/ ٢٠).
53 إذَن المَحَبَّة والوحدة صِفتان بارزتان بين شعب الله الحقيقي. والله لا يطلب مِنَ الناس ما لا يستطيعون فعله: (لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفسًا إِلَّا وُسعَهَا...). [البَقَرَة ٢٨٦]. لذلك يجب أن يتميَّزَ شعبُ الله بتطبيقِ كلّ شرائعه وتعاليمه ووصاياه وباتّباع هُداه في كل الكُتُب المُقَدَّسة. فالغَيرة وحدها لا تكفي. فدون مَعرفَةٍ صَحيحَةٍ، جَعَلَت الغَيرة، غير المُوَجَّهَة توجيهًا صائِبًا، اليهود يرفضون المسيح والأنبياء: "...لَهُم غَيرَةً للهِ، وَلَكِن لَيسَ حَسَبَ المَعرِفَةِ". (رُومية ١٠/ ٢).
54 وهل يمكن أن تكونَ كلّ الرِّسالات السماويّة هي الحقّ في حين يفشل الأفراد المُنتَمون إليها في تطبيق مَبادِئ الله؟ قال السيد المسيح: "فٙإِذًا مِن ثِمٙارِهِم تٙعرِفُونٙهُم. لَيسَ كُلُّ مَن يَقُولُ: يَا رَبُّ، يَا رَبُّ! يَدخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. بَلِ الَّذِي يَفعَلُ إرَادَةَ اللهِ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ". (مَتَّى ٧/ ٢٠-٢١)، "يَقتَرِبُ إِلَيَّ هَذَا الشَّعبُ بِفَمِهِ، وَيُكرِمُنِي بِشَفَتَيهِ، وَأَمَّا قَلبُهُ فَمُبتَعِدٌ عَنِّي بَعِيدًا. وَبَاطِلًا يَعبُدُونَنِي وَهُم يُعَلِّمُونَ تَعَالِيمَ هِيَ وَصَايَا النَّاسِ". (مَتَّى ١٥/ ٨-٩). وكذلك جاء في القرآن الكريم: (...الَّذِينَ قَالُوٓا آمَنَّا بِأَفوَاهِهِم وَلَم تُؤمِن قُلُوبُهُم...). [المائدة ٤١]، (...يَقُولُونَ بِأَلسِنَتِهِم مَا لَيسَ فِي قُلُوبِهِم...). [الفَتح ١١]، (...يَقُولُونَ بِأَفوَاهِهِم مَا لَيسَ في قُلُوبِهِم وَاللهُ أَعلَمُ بِمَا يَكتُمُونَ) [آل عِمران ١٦٧]، (...يُرضُونَكُم بِأَفوَاهِهِم وَتَأبَى قُلُوبُهُم وَأَكثَرُهُم فَاسِقُونَ). [التَّوبة ٨].
55 لذلك علينا أن نتَمَثَّلَ بالنّبي أخنوخ (إدريس) ونوح اللذين اتَّخذا مَوقِفَهما بجرأة وشجاعة، رغم مُقاوَمَة مُعظم الناس. وكإبراهيم يجب أن نُظهِرَ إيماننا بأعمالِنا. لذلك يجب أن نعملَ على أخذ المَعرفة الصحيحة عن الله ومَقاصده ومَطالبه مِن كُتُبِه المُقَدَّسة، وبعدئذٍ نجتهد لنطبّقَ ما نتَعَلَّمُه لِنَصيرَ "عَامِلِينَ بِالكَلِمَةِ لَا سَامِعِينَ فَقَط". (رسالة يعقوب ١/ ٢٢-٢٥). لذلك قال السيد المسيح: "مِن ثِمَارِهِم تَعرِفُونَهُم...". (مَتَّى ٧/ ١٦-٢٠). فكلّ مَن يَدَّعي عِبادة الله بالصَّوابِ يجبُ أن يُنتجَ ثِمَارًا جَيِّدةً في الأقوال والأعمال.
56 وبالرغم من ذلك، يحاولُ النّاسُ عادةً أن يُحَرِّفوا ما يضايقهم. فلو نجحَ اليهود في تحريفِ كلام كُتُب الله فلماذا لم يُغَيِّروا النُّصوصَ الّتي تُشَهِّر عصيانهم وتَمَرُّدهم على الله؟ ولماذا لم يُحَرِّفوا نصّ عشرات النُّبُوات عن المسيح ليُبَرِّرُوا رفضهم إيّاه؟ الكتاب المُقَدّس يؤكِّد لنا أنّ اللهَ سيحفظ كلامه: "...وَأَمَّا كَلِمَةُ إلَهِنَا فَتَثبُتُ إِلَى الأَبَدِ". (إشَعياء ٤٠/ ٨)، "مَولُودِينَ ثَانِيَةً لَا مِن زَرعٍ يَفنَى، بَل مِمَّا لَا يَفنَى، بِكَلِمَةِ اللهِ الحَيَّةِ البَاقِيَةِ إِلَى الأَبَدِ... وَأَمَّا كَلِمَةُ الرَّبِّ فَتَثبُتُ إِلَى الأَبَدِ...". (رسالة بُطرس الأُولى ١/ ٢٣-٢٥). وكذلك نقرأ في القرآن الكريم: (...وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ...). [الأَنعام ٣٤]. ويدعو القرآن الكريم التوراة والإنجيل (الكِتَاب المُنِير). [آل عِمران ١٨٤؛ فاطِر ٢٥]. وتوضح عشرات الآيات القرآنيّة أنّ هذه الكُتُب هي مِن الله [البَقَرَة ٨٩؛ الأنعام ٩١]. ونقرأ عن التوراة والإنجيل أنّ كُلًّا مِنهما (فِيهِ هُدًى وَنُور). [المائدة ٤٤-٤٧]. وأيضًا عن التوراة (فِيهَا حُكم اللهِ). [المائدة ٤٣].
57 ويُوافقُ كثيرون مِن كِبارِ المُفَسِّرين (كالجَلالين، الفَخر الرازي، الطبَري، والبَيضاوي) على أنّ القرآنَ الكريم سَمَّى التوراة (كِتَاب اللهِ) [آل عِمران ٢٣] و(الكِتَاب المُستَبِين) [الصَّافَّات ١١٧]. غير أنّ البعضَ ما زالوا يعتقدون أنّه قد حُرِّفَ التوراةُ والإنجيلُ المَوجودان اليوم. ولكن ماذا يقول العُلَماء المُسلِمون عن ذلك؟ تَشرحُ كُتُبُ التّفسير التّحريف بطَريقَتَين:
١- تحريفٌ في اللفظ (أي تغييرٌ في النصّ)
٢- تحريفٌ (تشويه) في معنى النصّ.
وليس هنالك إجماعٌ بين المُفَسِّرين على أنّ التّحريفَ المَقصود هو تحريفٌ في النصّ. ويشرح الإمام البُخاري في صحيحه، في كِتابِ التّوحيد، مَعنى الكلمة "تحريف" كما يلي: "يُحَرِّفون: يُزيلون، وليس أحد يزيل لفظ كِتاب مِن كُتُب اللهِ عزَّ وجَلَّ ولكنّهم يُحَرِّفونه أي يتَأوَّلونه على غير تأويله". وفي تفسيرِ سُورة [النِّساء ٤٦] يقول الإمام الفَخر الرازي: "إنّ المُرادَ بالتّحريف: إلقاء الشُّبهة الباطِلَة، والتّأويلات الفاسِدَة، وصرف النَّظَر عن معناه الحقّ الى معنى باطل بوجوه الحِيَل اللَّفظِيّة، كما يفعلُ أهلُ البِدعة في زمَنِنا هذا بالآيات المُخالِفة لمَذهَبِهم، وهذا [الشَّرح لِكَلِمَةِ التَّحريف] هو الأصَحّ". ويقول في شَرحِه سُورة [المائدة ١٣]: "هذا التّحريف يحتملُ التّأويل [التّفسير] الباطِل، ويَحتَمِل تغيير اللَّفظ، وقد بَيَّنَّا فيما تقدّمَ أنّ الأَوَّلَ أَولَى لأنّ الكِتابَ المَنقول بالتَّواتر لا يتأنّى فيه تغيير اللَّفظ".
58 والغريب اليوم هو ان الغربيّين يعرفون عن الإسلام ويعرفون أيضًا عن الإمام الغَزالي (حُجّة الإسلام) أكثر ممّا يعرفه الشرقيّون، فهم يترجمونه ويبحثون في تعاليمه ويدَقِّقون النظر في كُتُبِه مثل: "إحياء عُلوم الدِّين" وغيرها... ويُدقِّقون أيضًا في مَراميه الصوفيّة. أمّا المسلمون فقلّما يذكرون الإمام الغزالي أو يَتَحدّثوا عنه لأنّهم ما زالوا مشغولين بما وجدوا عليه آباؤهم أوَلَو كان آباؤهم لا يعقلون شيئًا ولا هم يهتدون. بالإضافة الى ذلك، للإمام الغزالي عند مُستشرقي الغرب وعُلمائه مَنزلة رفيعة وهم يضعونه مع إبن سينا وإبن رشد في المَقام الأوّل بين فلاسفة الشرق. أما الرُّوحيّون بينهم فيحسبونه أنبل وأسمى فكرة ظهرَت في الإسلام. ومِن الغرائب أنّنا نشاهد اليوم على جدران كنائس في إيطاليا (فلورنسا مثلًا)، مِن بناء الجيل الخامس عشر، نشاهد صورًا للإمام الغزالي بين صوَر غيره مِن القدّيسين واللاهوتيّين التي تعتبرهم أئمّة الكنيسة في الأجيال الوسطى دعائم وأعمدة لها وللعالَم أجمع.
59 أمّا القديس أغسطينوس فهو عماد الكنيسة المسيحيّة، فبينه وبين الإمام الغزالي رابطة نفسية، وهما وَجهان مُتَشابهان لمبدأ واحد، رغم ما بين زمانَيهما ومُحيطهما مِن الإختِلافات المَذهَبيّة والإجتماعيّة. أمّا ذلك المبدأ الواحد فهو مَيل وَضعي في داخل النفس، مثلًا: إعتزل الإمام الغزالي الدنيا وما كان له فيها مِن الرّخاء والمَقام الرَّفيع وانفَرَدَ وَحده مُتَصَوِّفًا، مُتَوَغِّلًا في البَحث عن ما يربط أواخر العِلم بأوائل الدِّين، مُتَعَمِّقًا في التفتيش عن جَوهر الدِّين واللاهوت. وهكذا فعل القديس أغسطينوس قبله بخمسةأجيال. فمَن يقرأ له كتاب "الإعتراف" يرى أنه قد اتَّخَذَ الأرضَ سُلُّمًا يصعد عليه نحو السماء. غير أنّ الإمام الغزالي أقرب الى جواهر الأمور وأسرارها، وقد يكون سبب ذلك في الفرق الكائن بين ما ورثه الإمام الغزالي مِن النظريات العِلميّة العَربيّة واليونانيّة التي تقدَّمَت زمانه، وما ورثه القديس أغسطينوس مِن عِلم اللاهوت الذي كان يشغل آباء الكنيسة في القرنَين الثاني والثالث بعد الميلاد. والوراثة الفِكريّة هي مِن فِكر الى فِكر ومِن عَصر الى عَصر...
60 والإمام الغزالي كان حلقة مُهمّة بين الذين تقدَّموه مِن مُتَصَوِّفي الهند وما بلَغَت إليه أفكار البوذيّين قديمًا وفيما كتبه سبينوزا ووليم بلايك حديثًا. لقد جمع الإمام أبو حامد الغزالي بين الريادة الفلسفية والموسوعية الفقهية والنزعة الروحية، واتسم بالذكاء وسعة الأفق وقوة الحجة وإعمال العقل وشدة التبصّر، مع شجاعة الرأي وحضور الذهن. كل ذلك أهّله ليكون رائدا في تلك العلوم المختلفة والفنون المتباينة؛ فكان الإمام الغزالي فيلسوفًا وفقيهًا وصوفيًّا وأصوليًّا، يحكمه في كل تلك العلوم إطار محكم مِن العِلم الوافر والعقل الناضج والبصيرة الواعية والفكر الراشد، فصارت له الريادة فيها جميعًا، وأصبح واحدًا مِن أعلام العرب المَوسوعيّين المَعدودين.
61 وعلاوةً على ذلك، إنَّ الحقيقةَ كالنجوم لا تبدو إلّا مِن وراء ظلمَة الليل. وهي، بِحٙسٙب مٙفهومها الفٙلسٙفي، تٙعني: كٙشف المٙحجُوب وإعلانه، وخٙلع المٙظاهِر عنه، والرجوع إلى المٙصادِر في صفائها... أكثر مِمّا تعني، في مفهوم عِلم الحساب، مُوافَقَة العقل للوَقائع، أو مُطابقة أحكامه على ماهِيَّة الأشياء. لهذا تبقى مساحات واسعة جِدًّا بين حُرِّيَّة الإنسان في أبحاثه اللّامحدودة، وبين الوُصول الى الحقيقة وامتلاكها. وقد لا يصل أحد، في هذه الحياة المَحدودة والمُتَقَلِّبَة، الى شيء ثابت. كل ما في الوجود ينقلب على ذاته، وعلى غَيرِه، ويئِنّ، وكأنّه في مَخاضٍ عسيرٍ ومُستمِرّ. قال السيّد المسيح: "وٙمِن أٙيّٙامِ يُوحٙنّٙا المٙعمٙدانِ إِلَى الآنَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ يُغتَصَبُ وَالغَاصِبُونَ يَختَطِفُونَهُ". (مَتَّى ١١/ ١٢). وقال بُولس في رسالته الى أهل رومية: "لِأَنَّ غَضَبَ اللهِ مُعلَنٌ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى جَمِيعِ فُجُورِ النَّاسِ وَإِثمِهِمِ، الَّذِينَ يَحجِزُونَ الحَقَّ بِالإِثمِ"، وفي ترجمة أخرى، "الَّذِينَ يَجعَلُونَ الحَقَّ أَسِيرًا". (رُومية ١/ ١٨). ويقول سفر أعمال الرسل: "...بِالحَقِّ أَنَا أَجِدُ أَنَّ اللهَ لَا يَقبَلُ الوُجُوهَ". (أعمال ١٠/ ٣٤).
62 ولكنّ اللهَ، يومَ الحِساب العظيم، سيسألنا، كما سَأل في البَدء قايين (قابيل): "مَاذَا فَعَلتَ بِأَخِيكَ؟". (تكوين ٤/ ١٠). ولن يقول لنا أبدًا: ماذا فَعَلتَ بي؟ أو ما هي القرابين التي قدَّمتها لي؟ أو لماذا لم تحفظ الناموس؟ أو أين هو الوحي؟ أو أين هي الحقيقة المُطلقة؟ وعلاوةً على ذلك، مَن مِن الناس رأى الشريعة نازلة مع نور الشمس مِن أعماق السماء؟ وأيّ إنسان رأى قلب الله فعَلِم مشيئته في البشر؟ مَن قرأها في توراة موسى ومزامير داود ونشيد سليمان وسفر أيّوب ومراثي إرميا وتخيّلات إشَعياء وعظات المسيح...؟ ومَن قرأها في القرآن الكريم والأحاديث النبَويّة أو في كُتُب السيرة النبَويّة...؟
63 الطٙبيعٙةٙ البٙشٙريّٙةٙ صالِحٙةٌ مِن حٙيثُ الأساس. وبالتالي فإنّٙ الحٙلّٙ لجٙميعِ الأسقامِ الإجتماعيّة يٙكمُنُ في تهذيبِ الذات وجِهاد النفس (الجِهاد الأعظم)، وكل ذلك يبدأُ بالثقافة والمٙعرِفة. فالتٙصٙرُّف بلياقة ولُطف، وتٙهذيب الحٙياة الشٙخصيّة يؤٙدِّيان الى سٙلام وانسِجام في المُجتٙمٙع: لُطف في الأب، وٙرٙع بٙنٙوي في الإبن، رقّة ونُبل في الأخ الأكبر، إتِّضاع واحتِرام في الأصغٙر، تٙصٙرُّف بارّ في الزٙوج، طاعٙة في الزّٙوجٙة، إعتِبار إنساني في الشُّيوخ، مُراعاة في الصِّغار، حُبّ الخٙير في الحُكّام، الوٙلاء في الوُزٙراء والرّٙعايا...
64 عَمليًّا يغرسُ آباؤنا وأنسباؤنا مُنذ الولادة الآراء الدينيّة أو الأخلاقيّة في ذهنِنا. ونتيجةً لذلك صار الدِّين تقريبًا مَسألة تقليد عائلي لأنّ إلتصاقَ الفردِ بدِيانة مُعَيّنة تُحَدِّده في أغلب الأحيان الصدفة الجغرافيّة لمَوقع مَولده. إنّ دَرسَ الرِّسالات السماويَّة المُختَلِفة لا يلزم أن يدلّ ضمنًا على عَدَم إخلاص المَرء لدِيانتِه الخاصّة، بل بالأحرى يُمكن توسيعها بالرؤية كيف سَعَى الناس الآخَرون الى الحقيقة واغتَنوا ببَحثهم. إنّ المعرفةَ تقود الى الفهم، والفهم الى التسامح مع الناس الذين لهم وُجهَة نَظَر مُختَلِفَة. يقول القرآن الكريم: (عَسَى اللهُ أَن يَجعَلَ بَينَكُم وَبَينَ الَّذِينَ عَادَيتُم مِنهُم مَوَدَّةً واللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ). [المُمتَحَنَة ٧]. وقال السيد المسيح: "وٙأٙمّٙا أٙنٙا فٙأٙقُولُ لٙكُم: أَحِبُّوا أَعدَاءَكُم. بَارِكُوا لَاعِنِيكُم. أَحسِنُوا إِلَى مُبغِضِيكُم، وَصَلُّوا لِأَجلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيكُم وَيَطرُدُونَكُم... وَالعَلِيُّ يُشرِقُ شَمسَهُ عَلَى الأَشرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمطِرُ عَلَى الأَبرَارِ وَالظَّالِمِينَ". (مَتَّى ٥/ ٤٤-٤٥).
65 في الواقع، لدينا الكفاية مِن الدِّين لجعلِنا نبغض، ولكن ليس الكفاية لجعلنا نُحبّ بعضنا البعض. يتشاجر الناس مِن أجل الدِّين، يكتبون مِن أجلِه، يُحاربون مِن أجلِه، يموتون مِن أجلِه. الناس لا يفعلون أبدًا الشرّ بشكلٍ تام وببَهجَة كبيرة كما عندما يفعلونه عن إقتناع ديني. وحيث مَنَع الدِّين الحقيقي جَريمة واحدة، هيَّأت الأديان الباطلة عُذرًا لألف. هكذا يستخدم الناس أقدس ما في الكون لتعميم شرور الكون. فالخير في الناس مَصنوع إذا جُبروا والشرّ فيهم لا يَفنى وإن قُبروا... وبالتأكيد لا بُدّ أن يجعَلَنا تاريخُ العَالَم نَتَوقَّف ونتساءل أيّ دور قام به الدِّين في الحُروب الكثيرة. لماذا عدَد كبير جِدًّا مِن الناس قَتَلوا وقُتِلوا باسمِ الدِّين؟ الحَملات الصليبيّة، مَحَاكم التفتيش، النِّزاعات في الشرق الأوسط وإيرلندا الشمالية، المَذبَحَة بين العراق وإيران (١٩٨٠-١٩٨٨)، الإصطِدامات الهندوسيّة السيخيّة في الهند، بالإضافة الى الحَربَين العَالَمِيَّتَين حيثُ قَتَل الكاثوليكي الكاثوليكي وقَتَل البروتستانتي البروتستانتي بناءً على أوامِر قادتهم السياسيّين المسيحيّين، وأخيرًا الحرب المُدَمِّرَة في سوريا.... الحقيقة ليست شيئًا نُقاتل من أجله،
بل طريقًا نَعودُ إليه… معًا. لذلك كان صراخ البائسين المُتصاعد مِن جوانب الظلمات لا يسمعه الجالسون باسمِ الله على العروش، ونواح المَحزونين لا تسمعه آذان المُتكلّمين بتعاليم الله فوق المَنابر.
66 سيعود المسيح ثانيةً ليطرد باعة الدِّين مِن دُور العِبادة بعدما أصبحت مغاور لصوص تتلوّى فيها أفاعي الخُبث والروغ والإحتيال... فالتعليمَ المَسيحي يقول: "وَلَا تُشَاكِلُوا هذَا الدَّهرَ، بَل تَغَيَّرُوا عَن شَكلِكُم بِتَجدِيدِ أَذهَانِكُم لِتَختَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ اللهِ: الصَّالِحَةُ المَرضِيَّةُ الكَامِلَةُ". (رُومية ١٢/ ٢). لقد كُنّا بالأمس في هذه الحياة وقد جئنا الآن وسوف نعود حتى نصير كاملين: "فكونوا أنتم كاملين كما أن الله هو كامل". (متى ٥/ ٤٨)، "لكي يكون إنسان الله كامِلًا مُتَأهِّبًا لكُلِّ عَمَلٍ صالِح". (تيموثاوس الثانية ٣/ ١٧). وهذا ما أكَّدَه القرآن الكريم: (لَقَد خَلَقنَا الإِنسَانَ فِي أَحسَنِ تَقوِيمٍ). [التِّين ٤]، (الَّذِي أَحسَنَ كُلَّ شَيءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ... ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُوحِهِ...). [السَّجدَة ٧-٩].
67 لكلّ دِين تعاليم وإرشادات مُختَلِفة، لذلك يجب أن نَتَوَحَّدَ بالله بدَلًا مِن أن نختلفَ على الله. ولكن بسبب بُروز الإلحاد والقبول الواسع الإنتشار لنظرية التطوّر (داروين) في عصر المادّة الذي نجتازه، سَلَّمَ أُناس كثيرون بأنّ اللهَ غير مَوجود وهكذا عَمَّ الإلحاد بينهم، إلّا مَن رَحِمَ رَبِّي. فالطائفيّة السياسيّة قسّمَتنا إلى ولايات غير مُتَّحدة. ولقِيَام دولة الانسان، يجب إلغاء هذه الطائفيّة مِن النفوس ثمّ مِن النصوص. وفي هذا المَجال، يقول القرآن الكريم: (...وَإِنَّآ أَو إِيَّاكُم لَعَلَى هُدًى أَو فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ). [سَبَأ ٢٤]. (...إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم...). [الرَّعد ١١]، (ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَم يَكُ مُغَيِّرًا نِعمَةً أَنعَمَهَا عَلَى قَومٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). [الأنفال ٥٣].
68 وفي الواقع، إنَّ الدِّينَ يُؤمِن بقانون السَّبَبِيَّة. يقول القرآن الكريم: (إِنَّا كُلَّ شَيءٍ خَلَقنَاهُ بقَدَرٍ). [القَمَر ٤٩]. إنّ بعضَ المُفَكِّرين الإسلاميّين يقولون: إنّ نظريَّةَ داروين، نظريَّة التطوّر والإنتقاء الطبيعي، لا تُناقِض التفكير الدِّيني ولكن تُناقض التاريخ الدِّيني. في التفكير الدِّيني ليس هناك مانع أنّ اللهَ، كما خَلَقَ نظام التطوُّر بالنسبة الى النطفة: (لَقَد خَلَقنَا الإِنسَانَ فِي أَحسَنِ تَقوِيمٍ). [التِّين ٤]، وأنّ الإنسانَ أصلٌ وليس فرعًا عن مَخلوق آخَر، لذلك إنَّ قانونَ السَّبَبِيَّة لا يبتعد عن التفكير الدِّيني في هذا المَجال.
69 علاوةً على ذلك، إن ما يُرى الآن مِن عِناية الغَرب ببَحث آثار الشرق، ومِن عِناية عُلَمَائه بدِراسة الإسلام مِن نواحيه المُختلفة ودِراسة تاريخه وأُمَمه قديمًا وحديثًا، ومِن إنصاف بعضهم للرسول (ص)، وما أيَّدَته التجارب مِن أنّ الحقَّ لا مَحَالة غالب، كل ذلك يُرشدنا الى أنّ الإسلامَ سيكون أشَدّ الناس عداوة له اليوم هم أشَدّ الناس غِيرةً عليه ودِفاعًا عنه، وسيكون الغُرَباء عنه هم أنصاره وأهله، وكما نَصَرَه أوّل أمره الغُرَباء عن البيئة التي نشأ فيها، أمثال عبد الله بن سلام، وهو حَبر عَالِم مِن كبار أحبار وعُلَماء اليهود الذي لم يلبث حين اتّصَلَ بالرسول (ص) أن أسلمَ، وأمَرَ أهلَ بيته فأسلموا معه. فطَلَبَ الى الرسول (ص) أن يسألَهم عنه: ما شَأنه؟ قَبل أن يعرفَ أحَدٌ مِنهم إسلامه، قالوا: سيّدُنا وابنُ سيّدِنا وحَبرُنا وعَالِمُنا... عندئذٍ نزلَت فيه آية قرآنية: (قُل أَرَءَيتُم إِن كَانَ مِن عِندِ اللهِ وَكَفَرتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِن بَنِيٓ إِسرَآئِيلَ عَلَى مِثلِهِ فَآمَنَ وَاستَكبَرتُم، إِنَّ اللهَ لَا يَهدِي القَومَ الظَّالِمِينَ). [الأحقاف ١٠]. وهنالك الكثير أمثال عبد الله بن سلام والقس ورقة بن نوفل والراهب بَحِيرا وغيرهم.... وهؤلاء هم ﺍﻟﻘَﻠﻴﻞ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻗﺎﻝ ﺍﻟﻠﻪ ﻓﻴﻬﻢ: {...ﻭَﻗَﻠِﻴﻞٌ ﻣِﻦ ﻋِﺒَﺎﺩِﻱ ﺍﻟﺸَّﻜُﻮﺭُ}. [ سَبَإٍ ١٣]، {...ﻭﻣﺎ ﺁﻣَﻦَ ﻣَﻌﻪ ﺇلّا ﻗﻠﻴﻞ}. [هُود ٤٠]. {ﺛُﻠَّﺔٌ ﻣِﻦَ ﺍﻷَﻭَّﻟِﻴﻦ ﻭَﻗَﻠِﻴﻞٌ ﻣِﻦَ ﺍﻵﺧِﺮِﻳﻦ}. [الواقِعَة ١٣-١٤]. وبنفس الطريقة، وفي آخِرِ الأمر، سَيَنصُرُ الإسلامَ الغُرَباءُ عن لُغَتِه ووَطَنِه. وقد بَدَأ غريبًا وسيعود غريبًا كما بَدَأ، فطُوبى للغُرَباء. وبالتالي، ولهذا الغرض، نذكر اهم المشاهير والعلماء الذين اسلموا حديثاً: موريس بوكاي، هوفمان، انغريد ماتسون، جرماين جاكسون، داني تومبسون، دانيال مور، دانييل ستريتش، روجيه غارودي، فرانك ريبيري، كريس جاكسون، كريستيان باكر، لورين بوث، مارتن لينغز، مالكوم إكس، مايك تايسون، مايكل وولف، نيكولا انيلكا، كاتي ستيفن (يوسف اسلام)، جوزيف استوس، محمد علي كلاي...
70 والسيّد المسيح (ع) عاش أشٙدّ أنواع الغُربة في وٙطٙنِه (مٙتّٙى ٢٥/ ٤٣؛ لوقا ٤/ ٢٤). وكما أنّٙ القدّيسٙ والبارّٙ لا يستطيعان أن يتسامٙيا فوق الذات الرفيعة التي في كل واحد مِنّا، هكذا الشرّير والضعيف لا يستطيعان أن يٙنحٙدِرا إلى أدنى مِن الذات الدنيئة التي في كل واحد مِنّا. لذلك لا يٙستطيع فاعلُ السوء بيننا أن يقترفٙ إثمًا بدون إرادتنا الخفيّة ومٙعرفتنا التي في قلوبنا.
71 نحن نُبَرِّرُ أنَّ كوارثنا ومصائبنا هي بسبب بُعدِنا عن الله رغم أننا أكثر شعوب الأرض إيمانا بوُجود الله وعبادة له، ونرجِعُ فشلنا إلى أن نساءنا كاسيات عاريات رغم أنهن أكثر نساء البشر تغطية لأجسادهن. ونحن نؤمن أنَّ سببَ بُؤسنا هو غضب الله وسخطه علينا رغم ان نفسَ المَنطق سيقودنا إلى أن أزدهارَ أمريكا وقوّةَ أوروبا هو لرضا الله ونِعمَتِه عليهم. ونَعلَمُ عِلم اليقين وبالأرقام بأن المجتمعات الأكثر تدَيُّنًا في العالَم هي أيضًا الأكثر فسادًا في الإدارة، والأكثر ارتشاءً في القضاء، والأكثر كذبًا في السياسة، والأكثر هَدرًا للحقوق، والأكثر تحَرُّشا بالنساء، والأكثر إعتداءً على الأطفال، ثم نقول للناس: "إن سببَ فساد الأخلاق هو نقص الدِّين". فيا للوقاحة.
72 نحن نبتهج بوجود مَساجد وكنائس كبرى وفاخرة في قلب نيويورك ولندن وباريس، ونبتهج بمَشهد شاب غربي يُرَدِّد الشهادتين ولو بصعوبة خلف شيخ في مَسجد مِن عواصم الغرب، لكنّنا في الأول وفي الأخير نعتبر ذلك انتصارًا للإسلام ولا نراه انتصارًا لقيم حقوق الإنسان وللحُرِّيّات الفرديّة والحُرِّيّات الدِّينيَّة، بل نقيم الدنيا إذا عَلِمنا أنَّ قِسًّا قام بتعميد مُسلم واحد ولو داخل الفاتيكان٬ ونظنّ ذلك مؤامرة ضدّ الإسلام والمُسلمين.
73 تخَلَّفنا ليس بسبب بُعدنا عن الدِّين، فالأمم المُلحِدة المُتقدِّمة ليس لَدَيها دِين. تخَلَّفنا لأنّنا لا نأخذ بأسباب التقدُّم والتطوُّر٬ وفشلنا بسبب فسادنا وفساد حكوماتنا، وأصبحنا رَجعِيِّين لأننا بعيدون عن العِلم والعُلوم والتعليم، وبؤس حالنا لأننا أُمّة تظنّ أن اللهَ لم يهدي إلّا سواها. فمتى سنعرف أن الدِّينَ ليس لحية ولا مسبحة ولا صرخة ولا عمامة ولا حفظ لآيات وأحاديث لا نطبّقها، ولا خرافات ولا كهنوت ولا مناطقية ولا حزبية ولا عنصرية ولا طائفية... ففي الدين الإسلامي لا فرق بين أبيض وأسود إلّا بالتقوى. وإنما فيه أن المعاملة بين الناس واجبات وحقوق، تسامح وتراحم، إحسان ورفق ومَوَدَّة، عِلم وعَمَل ومُثابرة وجدّ واجتهاد.
74 وكلمة أخيرة على ضوءِ كل ما وَرَدَ في هذا البحث وهي:
ليسَت شهادة الحقّ تكتفي بمُجَرَّدِ الإيمان باللهِ ومَلائكتِه وكُتُبِه ورُسُلِه واليومِ الآخِر، ولا يقضي حقّها بالصّلاة والصّوم والزّكاة والحَجّ، وإنّما بتبليغِ كلمة الحقّ إلى بني آدم كافّة بالأعمال الصّالحة والأخلاق الحَميدة والسِّياسٙة العادِلة والمنهاج الصحيح... ولكنّ الجٙهل والخُرافٙة وسفاهة العقيدة هي جيوش في تسخير واستعمار كل المُجتٙمٙعات، وهي أيضًا فٙنّ اغتصاب العُقول... لذلك يدعم الغٙرب كل مشروع ديني مُتطرِّف وانفصالي وطائفي في الشرق بهٙدٙف السيطرة والتسلّّط والإستعمار... فالناس أسرى لعادات أو لقناعات وَهميّة تقَيّدهم، وما عليهم إلّا أن يكتشفوا الحَبل الخَفي الذي يلتفّ حول عُقولهم ويمنعهم مِن التقدّم للأمام. وهم لا يطبِّقون أحكام الله ويطالبون الحُكّام بتطليقها. كل أمّة تتوارث أجيالها الحديث عن الضعف والتخلّف والخوف والفقر ستبقى متأخّرة حتى تفكّ حبلها الوهمي. والأُمّة المُستَعبَدة بروحها وعقليّتها لا تستطيع أن تكون حُرّة بعاداتها ومَلابسها... عندما نعرف ذلك، سيحدث حينها التغيير وسترتفع مكانتنا بين أنفسنا وبين الشعوب.
د. انطوان جعجع
(عِلم النفس العيادي)
antoinjaajaa@gmail.com
Comments
Post a Comment