الموسيقى
كلايڤ روبنز (المعالجة بالموسيقى)
وليَم كونغريڤ (ترتيلة الألحان)
1 الموسيقى هي لُغَة النُّفوس، فيها قوّة تَهزّ القلب إهتزازات كهربائية، لها روح مِن النفس وعَقل مِن القلب. كانت ولا تَزال حَديث القلوب تَهزّ عواطف الملوك والفقراء في القصور وفي الصحراء. الموسيقى تَطرُد ظلمة النفس وتُنير القلب، والنفس كالمِرآة تنعكس عليها رُسوم الخَيال والأشباح التي تُحَرًك أوتار العَواطف. نَشَأت الموسيقى مِن صَوت العصفور الذي يُناجي زهور الحَقل ويُحاكي أغصان الأشجار ويُقَلّد خَرير مَجاري المياه ويُنادي الطبيعة بأسرها. والإنسان لا يَدري ما يٕقوله العصفور ولا الجَداول ولا الأمواج، ولا يَفقه ما يَحكيه المَطَر ولا يَفهم ما يَقوله النَّسيم لزُهور الحَقل، ولكنّه يَشعر أنّ قلبَه يَفقه ويَفهم مَفاد جميع هذه الأصوات فيَهتزّ لها تارّة بعَوامل الطرَب، ويََتَنَهّد طَورًا بفَواعل الأسى والكآبة، فيَقف مَعقود اللسان حائرًا، ورُبّما ناب عن لَفظه الدّمع، والدّمع أفصَح مُترجم. فالمَحبة أمّ المَشاعر والعواطف، جَعَلَت المسيح يَبكي على اليعازر. فقال اليهود: "أنظروا كيف كان يُحِبّه..." فَلَمّا رأى المسيح أخته تبكي، واليهود الذين جاؤوا مَعها يَبكون، إنزعَجَ بالرّوح واضطرب، وأخيرًا بَكَى المسيح. (إنجيل يوحنا ١١/ ٣٣-٣٦).
2 والآن تعالوا لنرى مَنزلة الموسيقى ونتأمّل تأثيرها في تاريخ بني آدم: عَبَدَها الكلدانيون والمصريون كإله عظيم يُسجَد له ويُمَجّد. واعتقد الفرس والهنود بكَونها روح الله بين البَشر، مُعتبرين أنّ عزوبة الألحان توطّد الآمال بوُجود حياة أبديّة. والموسيقى عند اليونان والرومان كانت إلهًا مُقتدرًا دَعُوه أبولون، يَحمل القيثارة في يَساره ويَمينه على الأوتار، ورأسه مَرفوع وعيناه ناظرتان الى البعيد. وقالوا إنّ رنّات أوتار أبولون صدى صوت الطبيعة: رنّات ينقلها عن تغريد الطيور وخَرير المياه وتنهّدات النّسيم وحَفيف أغصان الأشجار. وجاء في أساطيرهم أنّ رَنّات أوتار أورفيوس الموسيقية حرّكَت قلوب الحيوانات والنبات والبهائم وطيور السماء وحتى سمك البحر... فمَدّّت نحو أورفيوس الأزهار أعناقها ومالَت إليه الأغصان، والجَماد تَحَرّك وتَفَتّت. كل ذلك يُؤكّد ما قاله النبي أيّوب: "فاسأل البهائم فتُعَلّمك وطيور السماء فتُخبرك أو كَلِّم الأرض فتُعلّمك ويُحَدّثك سَمَك البَحر" (أيّوب ١٢/ ٧-٨). وقال اليونانيون عن أورفيوس إنّه فَقَدَ زَوجته فبكاها ورَساها، فبَكَت الطبيعة لبكائه حتى حَنّّت قلوب الآلهة ففَتَحَت له أبواب الأبدية كي يَلتقي حَبيبَتَه في عالَم الأرواح. وكل ذلك تمّ في جزيرة في البحر دعاها اليونان جزيرة الموسيقى والأغاني. وقالوا إنّ الأمواج تَصوغ مِن أصواتها أنغامًا مُحزنة، تَملأ الأثير فيَسمعها المَلّاحون. فلقد كان تأثير الموسيقى في صدور اليونان عميقًا وعظيمًا، وأقوالهم عنها فيها مبالغة شعريّة مَصدرها رقّة العواطف والمشاعر تعبّر عن المَحبّة، مَحبّة الآلهة والجَمال... كانت الموسيقى عند الأشوريين عنوان المَجد في الحفلات ورَمز السعادة في الأعياد. وكانت الموسيقى لسان جميع أمَم الأرض: سَبّحَت مَعبوداتها بالأناشيد ومَجّدَتها بالألحان، وكانت التراتيل ـ وهي الآن - فرض كالصلاة يُقَدِّمُونها في المَعابد والكنائس، مَبدأها عواطف النفس، صَلَوات يُهَذّبها القلب وما أكمَلته إهتزازات المَشاعر في التراتيل. أنفاسٌ حُرّة مَمزوجة بألفاظ أثارَتها نَدامة المَلك داوود، فمَلَأَت أناشيده أرض المَوعد بالتسبيح والترنيم والهتاف لمَلك المجد، وابتَدَعَت نَدامته أنغامًا مُؤَثِّرة مَنبَعها إنفعالات التوبَة وحُزن النفس. وكوَسيط قامَت مَزاميره، بينه وبين الله تطلب له مَغفره زَلّاته، وكأنّ رَنّات قيثارته قد انبَثَقَت مِن قلبه المُنسَحق، فكانت مَزاميره عظيمة عند الله والناس. وهو القائل: "هلّلوا للرب، سَبّحوا الرب بصَوت البُوق، سَبّحوه بالمَزامير والقيثاره، سَبّحوه بالطبل والدّفوف، سَبّحوه بالأوتار والأرغن، سَبّحوه بصوت الصنوج، سَبّحوه بصنوج التهليل وكل نَسمة فلتُسَبّح الرب". (مزمور ١٥٠). "رَنّموا للرب بعود. بعود وصوت نشيد. بالأبواق وصوت الصُّور، أهتفوا قدّام المَلك الرب. ليعجّ البَحر وملؤه، المَسكونة والساكنون فيها. الأنهار لتُصَفّق بالأيادي، الجِبال لتُرَنّم مَعًا أمام الرب..." (مزمور ٩٨). "هلّلويا. سَبّحوا الرب مِن السماوات... سَبّحيه يا أيّتها الشمس والقمر. سَبّحيه يا جميع كواكب النور... سَبّحي الرب مِن الأرض، يا أيّتها التنّانين وكل اللُّجج. النار والبَرَد، الثلج والضباب، الرّيح العاصفة الصانعة كَلمَته، الجِبال وكل الآكام، الشجر المُثمر وكل الأرز، الوُحوش وكل البهائم، الدبّابات والطيور ذوات الأجنحة، مُلوك الأرض وكل الشعوب، الرؤساء وكل قضاة الأرض، الأحداث والعذارى، أيضًا الشيوخ مع الفتيان، ليُسَبّحوا إسم الرب، لأنّه قد تعالى إسمه وَحده". (مزمور ١٤٨). "هلّلويا. غنّوا للرب ترنيمة جديدة، تسبيحته في جماعة المؤمنين والأتقياء... ليُسَبّحوا إسمه برَقص. بدفّ وعود ليرنّموا له... ليرنّموا على مضاجعهم. تنويهات الله في أفواههم...". (مزمور ١٤٩). وتلاميذ يسوع المسيح سَبَّحوا قبل ذهابهم الى بستان الزيتون (متى ٢٦/ ٣٠) حيث قُبِضَ على معلّمهم وكانت نغمة تسبيحتهم هذه صادرة مِن أعماق نفوس حزينة رأَت ما سيحلّ برَسول السلام والمحبة. تلك هي نغمة مُؤَثِّرة نابَت عن كلمة الوداع ثم جَعَلَت الرسول بطرس يبكي بكاء مُرًّا. وفي آخِر الدّهر، تأتي ملائكة مِن السماء نافخة الأبواق في جميع أقطار العالَم فتَستَفيق مِن صوتها الأموات وتَقِف أمام الدَّيّان حين يَسمَعُ صَوته الذين في القبور. لقد عَظّم الرسول يوحنا، كاتب سفر الرؤيا، عَظّم الموسيقى إذ أنزلها مَنزلة رسول مِن الله الى أرواح البشر.
3 ومِن ناحية أخرى، تَسير الموسيقى أمام العساكر الى الحرب فتُجَدّد عَزيمة الجنود وتُقَوّيهم على الكفاح، وكالجاذبية تجمع شتاتهم وتؤلّف مِنهم صُفوفًا لا تَتَفرّق. هكذا فعل هتلر وغيره. جَعَل هتلر الموسيقى تمشي أمامهم كقائد عظيم، يَبُثّ بأجسامهم الضعيفة والواهنة قوّة تفوق الوَصف، وحَمِيّة تُنَبّه في قلوبهم حُبّ الإنتصار، فيُغالبون الجُوع والعَطَش وتَعَب المَسير، ويُدافعون بكل ما في أجسادهم مِن القوّة. ووَراء الموسيقى يَسيرون بفَرَح وطَرَب ويَتبَعون المَوت الى أرض العَدوّ. هكذا إستخدم هتلر أقدس ما في الكون لتَعميم شرور الكون... والمَولود الجَديد يُقابله الأقارب والأهل بأغاني الفَرَح وأناشيد الإبتهاج وهو يبدأ بالبكاء والعَويل فيُجيبونه بالتهليل والهتاف. وعندما يَبكي الرّضيع تقترب منه والدته وتُغَنّي بصَوتها الموسيقي المَملوء حُنُوًّا ورِقةً، فيَكفّ عن البكاء ويَرتاح لألحان أمّه ثمّ ينام. ولا ينام الطفل الرضيع إلّا على صَدر الأم الحنون، فيَتَغلّب على الأرَق ويشعر بالطمانينة والأمان بسبب نغمة وألحان صوت أمّه. فإذًا إتبعوا المحبّة ولكن جدّوا للمواهب الروحية كما قال الرسول بولس، والرب يبارك مَن مَيَّزَه بعذوبة الصوت ووَهَبَه إدراك التنغيم والإيقاع ومَنَحَه التلحين لتَمجيد الرب. فالتراتيل والألحان الموسيقية تُحَرّك وتُهَيّج عواطف الإنسان المَكنونة، وتُؤَثّر في حالاته المُختلفة وتَدفَعه الى الصلاة والتسبيح والترنيم بخشوع أقوى، وترسم أشباح أطوار قلبه المُفعَم بالرّجاء فتَدفعه الى المحبة أكثر وإلى عبادة الله، وتوجّه مُيول نفسه وتصوغ ما يَجول في خاطره ليقترب الى الله أكثر فأكثر... لذلك تُعَلّمُ الموسيقى الإنسان أن يرى بسَمعه وأن يسمع بقلبه. لقد عَلّمَت الموسيقى النبي داوود الصلاة والتوبة والمحبة. كانت إناء مَرارة غَرامه وحَلاوته. كانت أخيلة قلبه البشري: ثمرة حُزنه وزَهرة فَرَحه وتَمجيده. كانت رائحة مُتصاعدة مِن طاقة زهور مَشاعره المَضمومة. الموسيقى كانت لسان مَحَبّته وتمجيده لله وأيضًا مُذيعة أسرار قلبه التائب. لقد كانت صائغة الدّموع المُرّة مِن العواطف المَكنونة في قلب بطرس عندما أنكَرَ سيّده ومُعَلّمه فوَحّدَت أفكاره فتاب. كانت مُؤلّفة المشاعر مِن مُؤثّرات الجَمال في قلب الملك سليمان عندما وَصَفَ حُبّ شُولَمّيت في سِفر "نشيد الإنشاد". فالموسيقى كانت خَمرة القلوب ومُطَهّره نفوس العابدين.
4 وعلى الصعيد النفسي كانت الموسيقى وحدها بسِحرها السّريع تُهَدّئ المزاج المُضطرب وتُسَكّن الذهن القَلِق. والتّمَرّن على الموسيقى وَسيلة فَعّالة أكثر مِن أيّ شيء آخَر، لأنّ الإيقاع والتوافق يَتَغلغلان عَميقًا في النفس. ودون شك، تؤثّر الموسيقى في العُقول والقلوب ويُمكن أن تُستَخدَم لتوجيهها إمّا الى الخير أو الى الشر، إمّا الى الإيمان أو الى الكفر. مَثلًا يُعتَقَد أن سماع الأولاد الصغار أنواعًا مُعيّنة مِن الموسيقى يُحَسِّن نموّهم العقلي والعاطفي. وبالمُقارنة إستخدم النازيّون موسيقى المارش المُثيره لتُساهِم في تهيئة الحشود الكبيرة للإصغاء الى خطابات هتلر الساحرة. لذلك يبدو أنّ هنالك فوائد يمكن نسبها الى القوّة التي تملكها الموسيقى. ولكن يَكمن الخطر في إحتمال أن يَستَخدم الأشخاص الفاسدون قوّة الموسيقى كأداة مُميتة. فقد أظهَرَت بعض الدراسات وُجود علاقة مُباشرة بين السلوك المُضاد للمجتمع وأنواع مُعيّنة مِن الموسيقى. وتُخبر مجَلّة عِلم النفس أنّ موسيقى الرّوك لها التأثير نفسه كمُشاهدة الفنّ الإباحي. والعُنف مَوصوف بشَكل حَيّ، وكلمات الأغاني صَريحة جنسيًّا في بعض موسيقى الرّاب وهذا فاحش للمجتمع. ومِثل موسيقى الرّاپ يرتبط الإضطراب بالسلوك العَدائي والمُخَرِّب عند المُراهقين الذين يَستَمعون الى الهيفي ميتل، بالإضافة الى العلاقات الجنسية والإنتحار والسلوك المضاد للمجتمع. الله جعل اللغة والموسيقى ميزاتان للنّوع البشري. لذلك يمكن القول إنه، كما في اللغة، عندما تَتَكَلّم الموسيقى تُصغي عواطفنا. فالعَناصر الموسيقية وطريقة مُعالجة دماغنا لها، وتركيبنا العاطفي وخَلفيّتنا الثقافية يؤثران في رَدّ فعلنا إزاء الموسيقى، واللغة التي يمكن أيضًا أن تؤثّر في رَدّ فعلنا. كل آلة موسيقية لها صوتها الفريد، والمُلَحّنون يَستخدمون خصائص الموسيقى المُمَيّزه لخَلق تأثيرات صَوتيّة مُعيّنة لإثارة عواطف المُستَمِع. والإيقاع Rhythm هو العنصر الأوّل الذي نألفه ورُبّما حين كُنّا لا نزال في الرّحم نستمع الى نبضات قلب أمِّنا. ويُقال إن نبض قلبنا أو حتى تنفّسنا يؤثر دون أن نُدرك في استجابتنا للإيقاع الموسيقي. لذلك قد لا يكون صدفة أنّ معظم الناس يُفَضّلون، كما يبدو، السرعة الموسيقية التي تتراوح بين 70 و 100 ضربة في الدقيقة - المُعَدّل نفسه لسرعة القلب. فالصوت الحزين لـ Bossom مِن كونشرتو مُوزار يُثير العواطف والمَشاعِر العَميقة. والصوت الشجيّ للناي الياباني يَمسّ القلوب بنُعومة. والساكسفون التينور يُبقي لَحن البلوز في أذهان كثيرين. والتوبا الالمانية توقظ عادةً مَشاعر الإنتعاش والحَيَويّة. والأنغام الإيقاعية للكمنجات (سرطان البحر هو عازف على آلة الكمان) التي تعزف موسيقى الفالس لشتراوس تدفع كثيرين الى باحة الرّقص. إنّ هذه التأثيرات تنتج لأنّ الموسيقى تَتَكلّم مع الكائن البشري بكامله. والتوافق Harmony في الموسيقى يُنتِج أصواتًا مُمتعة، فيما يُنتِج التنافر Discord أصواتًا مُزعجة. هذان العنصران يُكَمّل واحدهما الآخَر. فالتفاعل المُستَمرّ بين التوافق والتنافر يُزَوّد تَجاذبًا مُتصاعدًا، وإن كان في مُعظمه غير مَلحوظ. وإذا كانت الموسيقى مَبنيّة فقط على التوافق، تكون روتينية مُضجِرة في حين أنّ الموسيقى المُتنافرة وحدها تثير الأعصاب. واللّحن Melody هو الترتيب المُتآلِف النّغمات للنوتات المُنفردة بالتتابع. وكلمة Melody مُشتقّة مِن الكلمة اليونانية ميلوس التي تعني أغنية. واللحن Melody هو موسيقى عَذبة. والنوتات المُتتابعة التي يَفصلها القليل مِن الأبعاد الكبيرة يُمكن أن تنتجَ لَحنًا مُمتعًا، والترتيب المُختَلِف للنّوتات والأبعاد يُعطي اللّحن طابعًا حزينًا او سَعيدًا. وعندما تجتمع هذه العناصر كلّها تخلق قوى فَعّالة يُمكنها أن تثير أو تُهَدّئ عواطفنا. وهذا بسبب الطرائق المُتنوّعة التي بها تُدرك أدمغتنا الموسيقى وتعالجها. فاللّغة والمَنطق هما مِن وظائف الجانب الأيسر مِن الدماغ، في حين أن الموسيقى تُعالَج في الجانب الأيمن مِن الدماغ الذي يعالج الى حدّ كبير المَشاعر والعواطف. ومِن الواضح أنّ الموسيقى تَملك القوّة لخَلق المَشاعر والعواطف بطريقة سريعة وفعّالة، وهنالك علاقة وثيقة بين السّمَع وإثارة العاطفة أكثر مِمّا بين النظر وإثارة العاطفة. فرُؤية حيوان مَجروح أو إنسان يتألّم بسكوت قد تُثير عاطفة المُشاهِد قليلًا. ولكن حالما يَبدأ بالصراخ، يَتأثّر المُشاهِد كثيرًا. ولكنّ رَدّ الفعل للمُستمع إزاء لَحن أو أغنية ما، يَعكس الحالة العَقليّة له او إختباره الماضي. مَثلًا عندما يَسمع شخص أغنية مُعَيّنة، ربّما تُعيد له الذكريات وتُسَبّب له الحزن او حتى تَجعله يبكي، في حين يَسمع نفس الأغنية شخص آخَر ويُغَنّيها بقلب فرحان. فداخل كل مِنّا، هنالك يُنبوع فَريد مِن المشاعر التي يمكن أن تُفَجّرها الموسيقى - وهكذا، نَتَجاوب معها بطريقتنا الخاصّة. لذلك تُساعِد الموسيقى على وَصل الكلمات أو الأفكار بالعواطف. فالإعلانات التلفزيونية ترافقها الموسيقى المُلائمة. وبالرغم مِن أنّها تَستَعمِل كلمات غير مَنطقية، فالموسيقى المُلائمة التي ترافق الإعلانات تؤثّر في عواطف المُستمِع. وكم هو صحيح أنّ هَدَف مُعظم الإعلانات هو دَفع الناس عاطفيًّا لا مَنطقيًّا الى الشراء. إن كلمات موسيقى الهيفي ميتل والرّاپ غالبًا ما تكون غامضة بسبب صوت الموسيقى العالي. فسواء كانت الكلمات مَفهومة أو لا، تبقى الرسالة واضحة في الإيقاع النابض واللّحن المُتَكَرّر. وفي الواقع تخلق هذه الموسيقى صُوَرًا ذهنيّة عن السُّلطة، النفوذ، والمغامرات الجنسية بالإضافة الى العصيان التام، العنف، إساءة إستعمال مَوادّ الإدمان، الإختلاط الجنسي، الإنحراف، والشيطانية... وبالفعل، إنّ مشاعر الغَضَب، المُقاوَمة، والتّسَلّط في الهيفي ميتل التي تُجَسّد مَشاعر بعض الصبيان قد يُرَحّب بها التلاميذ الرّاسبون في المدرسة. وفي حَفلات الروك، لا شك في أنّ الموسيقى، بزيادة حدّة عواطف الجمهور وبُلوغ هذه العواطف الذروة معًا وليس على حِدَة، يمكن أن تُساهمَ هذه الموسيقى بقوّة في فقدان التمييز الصائب، أي أنّها تدفع الى الإستسلام الأعمى للمَشاعر الوَقتيّة، الذي هو ميزة خطرة جدًّا لسُلوك الجمهور. لذلك، مِن أجل تَجَنّب تَلَوّث العَقل والقلب، يجب أن نكون إنتقائيّين للموسيقى. وبما أنّ صناعة الموسيقى اليوم هي تجارة تجني البلايين، فإن التعاسة، الموت المُبكِر، والإنتحار تسِم حياة بعض الموسيقيّين الناجحين جدًّا. وهنالك أدِلّة وافرة على أن بعض أنواع الموسيقى يحطّ أدبيًّا، عاطفيًّا، ورُوحيًّا، ويمكن أن يؤدّي الى سلوك عنيف ومُضادّ للمجتمع. ومع ذلك، يلزم أن نحرز نظرة متّزنة الى الموسيقى. ففيما يُوجد الكثير مِمّا هو غير لائق ورَديء في هذا الفن، يمكن لبعض أنواع الموسيقى أن يُغني حياة المَرء ويَمنَح مِقدارًا مِن الفرَح والإكتفاء. ويمكن أن يُحَسّن حالَتنا العاطفية والرّوحية. فالمزامير هي روائع أدبيّة - قصائد مِن الشعر الغِنائي، ترانيم دِينيّة، وصلوات. واليوم تُقرَأ بسُرور بمئات اللغات وتُرَنَّم أيضًا بمُرافَقة موسيقى جَميلة - طريقة فعّالة لرَبط حِكمة الرب، كما تُعَبّر عنها الكلمات، بالمَشاعر التي ينقلها المُرنّمون المُدَرّبون الى المستمعين. ونَوعيّة وأسلوب الموسيقى هما أرقى مِن كل أنواع الموسيقى. وتُشير الأبحاث العِلميّة الى أن الإستماع المُنتظم الى الموسيقى المُتآلِفة الألحان، مثل موسيقى وألحان المَزامير، يمكن أن يُحَسّن مَقدرة الطفل على التّعَلّم وعلى تَنمية شَخصيّته وخاصة الجانب العاطفي. إذ يجب أن نكون مُعتَدِلين، ذوي تمييز سليم، وإنتقائييّن في كل أنواع الموسيقى. ويَصحّ ذلك ليس فقط في نوع الموسيقى الذي نختاره بل أيضًا في مقدار الوقت الذي نصرفه في الإستماع الى الموسيقى او العَزف على آلة موسيقية. فاحموا آذانكم لتحموا عواطفكم ولتحموا قلبكم وعَقلكم. قال الرسول بولس: "قَرّبوا أجسادكم ذَبيحة حَيّة مُقدّسة مَقبولة عند الله، خِدمة مُقَدّسة بقوّتكم وعبادتكم العقليّة". (رومية ١٢/ ١). ومِن الواضح أنّ عواطفنا هي جزء مِن هذه الذبيحة الحَيّة. لذلك إذا وَجَدنا يَومًا ما أنّ عواطفنا، بسَبَب تأثير الموسيقى، تَبتَدئ بتَشويش تَمييزنا الصائب ومَنطقنا وتُسيء تَوجيه نشاطاتنا، فعندئذٍ يَحين الوقت لتغيير عادات إستماعنا الى الموسيقى. وتَذَكّروا أنّ القوّة التي تَملكها الموسيقى يُمكن أن تؤثّرَ في قلبكم وعَقلكم - إمّا للخير او للشر. حقًّا إنّ المقدرة الموسيقية بُرمِجَت مُسبَقًا في الدّماغ البشري مِن الولادة. فالموسيقى هي لغة الأرواح تتموّج بين رُوح المُنشِد وأرواح السامعين. فإذا لم يكن هناك مِن أرواح تَسمَع وتفهم ما تَسمَع، فالمُنشِد يَفقد مَيله وشَوقه الى إظهار ما في أعماقه. والموسيقى مثل قيثارة ذات أوتار مَشدودة حَسّاسة، فإذا تراخَت تلك الأوتار فقَدَت خاصّتها وأصبَحَت كخُيوط مِن الكتان.
5 مِن الواضح أنّ تَذَوّق الموسيقى هو مَقدرة فِطرية فينا جَميعًا. صحيح أنّه تعتمد قواعد حِسابيّة بسيطة لوَضع الإيقاع، لكنّ الموسيقى تَسمو فوق هذا المَنطق الحسابي الجافّ وتمسّنا في الصّميم. فكما أنّ الكلمة في حِينها هي حَسَنة (أمثال ١٥/ ٢٣)، كذلك فإنّ الأغنية في حينها هي مُريحة. إنّ الموسيقى هي كالطعام، فالنّوع المُناسب بالمِقدار المُناسب مُفيد لنا. أمّا النّوع الرّديء فهو مُؤذٍ لنا سواء كان بكمّيّات قليلة أو كثيرة. ولكن مِن المُؤسف أنّ ما يَضرّ في مَجال الموسيقى هو الأكثر جاذبية. فقد نتساءل أحيانًا لماذا مُعظم الألحان الجَميلة تُرافقها كلمات بَذيئة. ومِن المُؤسف أيضًا أنّ الكثير مِن الموسيقى الحَديثة في أيّامنا ترافقها كلمات تُبرز الجنس، العنف، وتعاطي المُخَدّرات... ولكن هل يهمّ حقًّا ما هي الرسالة التي تنقلها الموسيقى إذا كان اللّحن يُعجبنا؟ للإجابة عن هذا السؤال، فلنَسأل أنفسنا: إذا أراد أحَد أن يُسَمّمنا، فكيف يَجعلنا نَتَناول السمّ؟ هل يَضعه في الخلّ أم في الحلوى؟. في الماضي سَألَ النبي أيّوب: "أليسَت الأذن تَمتَحن الكلام كما يذوق الحنك الطعام؟". (أيّوب ١٢/ ١١). لذلك بَدَلًا مِن الإستماع الى أغنية لأنّ لحنها أو إيقاعها (الحلوى) يعجباننا، فلنَمتَحِن عُنوانها وكلماتها. لماذا؟ لأنّ الكلمات التي يُرافقها لَحنٌ جَميل تُؤثّر في تَفكيرنا ومَواقفنا. وإذا كنّا لا نشعر بالتأثير الذي يَتركه فينا الإستماع الى كلمات تُبرز الجنس، العنف، وتعاطي المُخَدّرات، فهذا يعني أنّ مَفعول (السم) قد ابتدأ يَسري فينا. بالإضافة الى ذلك، قد يُشَكّل رفاقنا ضغطًا هائلًا علينا لنستمع الى موسيقى لها تاثير مُفسِد. وهنالك أيضًا الضغط التي تُشَكّله صناعة الموسيقى. فبِفَضل الراديو والتلفزيون والإنترنت، صارَت الموسيقى صِناعة قَويّة تُدِرّ بلايين الدولارات. كما أنّ خبراء التّسويق المُحَنّّكين يستَخدمون ليَصوغوا ويَتَحَكّموا في ذوقنا المُوسيقي. صحيح أنّ الموسيقى قد تُؤثر في الناس بطرائق مُختَلفة، ولكن كيف يَكون مِزاجنا بعد الإستماع الى الموسيقى التي نَختارها؟ لذلك يَجب ان تُنعِشَ الموسيقى قلبنا دون أن تَخنق روحيّاتنا. ومتى يَتجاوز الإستماع الى الموسيقى الحَدّ المَقبول؟ تمامًا كما أنّ الطعام المُغذّي هو مُفيد، كذلك فإنّ الموسيقى الجَيّدة هي مُفيدة. لكن المَثَل الحَكيم يُحَذّر: "أوَجَدتَ عَسَلًا؟ فكُل كفايتك، لئلّا تُتخَم فتَتَقَيَّأه" (أمثال ٢٥/ ١٦). فرغم أنّ للعَسَل خصائص عِلاجيّة مَعروفة، لكن أكل الكثير مِنه حتى لو كان مُفيدًا يمكن أن يكون مُضِرًّا لنا. فماذا نتعلّم مِن ذلك؟ ينبغي أن يَكون الشخص مُعتَدلًا حتى عندما يَقوم بأمُور مُفيدة. لقد أحَبّ المَلك داوود الموسيقى، وكان مُوسيقيًّا ومُؤلّف ترانيم مَوهوبًا. حتى أنّه صَنع آلآته الموسيقية (٢أخبار ٧/ ٦). لكنّه لم يَصِر مَغرومًا أو يَسمح للموسيقى بأن تُسيطرَ على حياته، بل إستخدم مَواهبه لتسبيح الله. لذلك يُمكننا الإقتداء بمثال داوود بعَدَم السّماح للموسيقى بأن تُسَيطرَ على حياتنا، وبَدَلًا مِن ذلك، نَستخدم الموسيقى لجَعل حياتنا أكثر متعة. فالقدرة على تأليف الموسيقى وتَذوّقها هي عطيّة مِن الله. يقول الرسول يعقوب: "كل عطيّة صالحة وكل مَوهبة تامّة هي مِن فوق، نازلة مِن عند أبِِ الأنوار". (يعقوب ١/ ١٧). وقد استَخدمَ داوود هذه العَطيّة بطريقة تُرضي الله. لذلك يجب أن نَحرصَ لئلّا نُسيء إستعمالها. حقًّا يُمكن أن تساعدنا الموسيقى على الإسترخاء وعلى ملء فراغنا عندما نكون وَحيدين. لكنّ مَشاكلنا تبقى مَوجودة عندما تَتَوَقّف الموسيقى. والأغاني ليست بَديلًا للأصدقاء الحقيقيين. وبالإضافه الى ذلك، يَجب أن نُغني ذوقنا الموسيقي. فهل نُحِبّ الآن أنواعًا مِن الطعام أكثر مِمّا كنّا نُحِبّ ونحن في الخامسة مِن عُمرنا؟ هذا لأنّنا صرنا نَستَطيب أطعمة لها نكهات مُختلفة. ويَصُحّ الأمر نفسه في الموسيقى. فلا يَجِب أن نقصرَ سماعنا للموسيقى على نَوع واحِد فقط، بل لنحاول أن نُغنِي ذوقنا الموسيقي. وإحدى الطرائق لفِعل ذلك هي تعلّم العَزف على آلة ما. فهذا لن يُنَمّي مَهاراتنا ويَجلب لنا الإكتفاء فحَسب، بل سَيُتيح لنا أيضًا فرصة لسماع أنواع أخرى مِن الموسيقى غير تلك التي تروّجها صناعة الموسيقى. وكيف نَجد الوقت للتّعَلّم؟ يمكننا إقتطاع الوقت مِن مُشاهدة التلفزيون او اللعب بالألعاب الإلكترونية. فالعَزف على آلة موسيقية مُمتع جدًّا وهو طريقة رائعة للتعبير عن مشاعرنا. وتََعََلُّم عزف أغاني جديدة يُعَلّمنا أن نحبّ أنواعًا عَديدة مِن الموسيقى. والتّمرين ليس دائمًا أمرًا مُمتعًا. لكنّ إكتساب البَراعَة في عَزف إحدى المَقطوعات الموسيقيّة يَمنَحنا شعورًا بالإكتفاء والإنجاز. وفي كل الأحوال لا يجب أن نَسمحَ للموسيقى بأن تَصيرَ الأمر الأهَمّ في حياتنا. لنَتَمَتّع بها، ولكن لنُحافظ على نظرة مُتّزنة إليها.
Comments
Post a Comment