قصة بنت 20

1 مُنذ فترة وأنا أجيء الى العيادة النفسيّة فيُقال لي: سألَت عنك الآنسة فلانة. وأذهب الى البيت فيُقال لي أيضًا، وبلهجة تختلف: سألَت عنك الآنسة فلانة. وأستغرب أمرها وأمر المصادفة التي تجعلها تسأل عنّي أكثر مِن مرّة، وأكون في كل مرة غائبًا عن العيادة، وغائبًا عن البيت.  وفي الليل يكون غيابي دائمًا لأنّ الليل الذي لا أسهر فيه يضيع مِنّي كما تضيع لحظات السعادة بين حَبيبين في حالات مُعَيًنة. ولا أستطيع أن أتَصَوّر أيّامًا كلها ليل أو كلّها نهار، لأنّ ذلك يجعل الحياة صعبة ومُمِلّة وخالية مِن الإحساس بالشوق الى فجر جديد أو أُمسية حالمة.

   2 وأعود الى الآنسة فلانة التي شَغَلَت بالي بالهاتف دون أن تذكر مَن هي أو ماذا تُريد منّي. فلماذا تسأل وتُكَرّر السؤال دون أن تترك رقمها؟ وكان ظهر يوم سبت حين رَنّ الهاتف وكانت هي نفسها، وسَمعتُ صَوتًا ناعمًا مُتَقَطّع الأنفاس يقول: دكتور انطوان؟ ــ نعم ــ سألتُ عنك كثيرًا فلم أجدك. قبل أن أذكر مَن أنا، أحب أن أسألك: إذا كانت هناك فتاة تخلّى عنها أهلها والناس والمجتمع وأصبَحَت في حالة يأس وضياع، فماذا تفعل؟ وأحسَستُ بنَبرة الصدق والألم في كلماتها فقُلتُ: ــ مثل هذا السؤال لا يُجاب عنه عبر الهاتف. فقالَت: ــ لو لم يكن وضعي غريبًا وتعيسًا لَمَا خَطَرَ لي أن أتّصل بكَ وأسألك: ماذا أفعل؟ واتّفقنا على مَوعد فجاءت، وإذا بي أمام فتاة في لباس العَصر وشعر طويل، ونَظَرتُ الى عَينَيها ووَجهها فلَاحَ لي جمال أصيل طَغَت عليه الكآبة وارتَسَم عليه اليأس والضياع. وبَدَت إبتسامتها وهي تصافحني، صفراء باهتة... فسألتُها مازحًا: ماذا تشربين غير الكحول والمُخَدّرات؟ -- قالت قهوة. وليتني تَجَنّبت المزاح، فبَقيَت صامتة، ثم بعد قليل بدأََت بالبكاء... ثمّ سألتها: هل أنتِ عاشقة؟ قالت: لا، أنا معشوقة. قُلتُ: مِن شاب فقير؟ قالت: كلّا، بل مِن رجال كثيرين يَملك مُعظمهم المال والشهرة، ولكن ماذا أفعل وقد تَخَلّى عَنّي الجميع، حتى هؤلاء الرجال العشاق؟ تَخَلّوا عنّي لأنّهم وُحوش... ولأنّي لم أجد بينهم الرجل الذي يَستحقّ أن أستسلم إليه. ثمّ عادَت تسألني: هل عندك وقت لسماع قصّتي؟

   3 وبَدَأت تروي قصّتها، أو مأساتها، وهي تختلف عن قصص الكثيرات مِن فتيات هذا العصر بما تَتَضمّن مِن تفاصيل دَقيقة تُقارَن بالأسماء والشواهد والأسلوب المُثير الذي يَتَجلّى فيه الصدق، إلّا إذا كانت أكبر مُمَثّلة، وكنت أنا مِن كبار الأغبياء. وأغرب ما في هذه القصّة أو المأساة أنّ بطلتها التي عَرفَت الكثيرين مِن العشّاق، فعوّدوها شرب الكحول والمخدّرات والتَّعرية في المخادع... هذه الفتاة لا تزال حتى الآن عذراء عُمرها 20 سنة. جَلَسَت  تروي قصّتها والدّموع في عَينَيها لا تجفّ حتى سَقَطَت دَمعة في فنجان القهوة فلا تبالي وهي تشرب القهوة مَمزوجة بالدّموع. ثم قالَت لي سأروي قصّتي لك لأنَفِّس عن صدري ولأسألك في النهاية: ماذا أفعل؟ قلتُ: ولماذا اختَرتني أنا بالذات؟ قالت: سَمعتُ عنك كثيرًا وأعتقد أنّك صاحب تجربة.

   4 وبدَأت الفتاة تسترسل في كلامها: كنتُ مُجتهدة ومُتفوِّقة في دروسي في مدرسة للراهبات، وكان والدي  يُرَدّد دائمًا أنّ عقلي أكبر مِن عُمري. وكنت بنت 10 سنوات حين خَسرَ أبي كلّ شيء في ضربة واحدة مِن ضربات القدر، فاستسلم الى اليأس والصراع والوحدة القاتلة. ومَرّت الأيّام، وصرتُ بنت 13، أصبح الشبّان يَحومون حَولي ويُسَمِّعوني كلمات الإطراء والغَزل، وقِلَّة الأدب أحيانًا. وذات مساء، وأنا عائدة مِن المدرسة، قَطَعَ عليّ أحدهم الطريق ويقول إنّه يحبّني، فنَفَرتُ منه وبقيتُ أنفر وهو يطاردني في الطريق، بواسطة الهاتف، الى أن شعرتُ ببعض التجاوب معه، رغم تحذير والِدتي مِن الرجال جميعًا. وفي إحدى الأمسيات كنت في البيت وحدي، عندما قُرِعَ الباب وكان الداخل هو نفسه، قاطع الطريق. ارتبَكتُ، فاندَفَع يعالج إرتباكي بضَمّي الى صدره وإغراقي بوَابل مِن القبلات المَحمومة، وكانت المَرّة الأولى التي يُقَبُّلني فيها رجل غريب. كان ذكيًّا ومُتَمَرّسًا، على ما يظهر، في تحريك مشاعر العذارى الحالمات، فاكتفى بالقبلات وتركني فجأة ومَضى...

   5 ولم أشأ أن أخبر والدتي بما حَدَث، بل وَجَدتُ نفسي أكتم الأمر عنها وأتّصل مِن وراء ظهرها بالرجل. وأقول "الرجل" لأنّه لم يكن شابًّا، بل كان في الأربعين مِن عُمره حيث شَعرتُ بكبر شأني وأنا أجد نفسي مَحبوبة لأوّل مَرّة مِن رجل يَكبرني بربع قرن فقط. ثم عاد مَرّة أخرى يَضمّني ويُمطرني بقبلاته ولم أعد أشعر بالإرتباك بل شعرتُ بالرّغبة في اكتشاف المَجهول فتَرَكتُه يَسترسل في الضمّ والعناق وأنا جامدة لا أتَحَرّك ولا أتجاوب. واستَمَرّ يَشدّني إليه ويُقبّلني في خَدّي وعُنقي ويُردّد أنّه يُحبّني ويعبدني ويُريد أن يتزوّجني... وهنا الآنسه X غصّت بالدّمع وتَنَهّدَت وقالَت: أشعر بالتّعب قدر ما أشعر بالإرتياح وأنا أروي، لأوّل مرّة، قصّة حياتي وأغوص في التفاصيل الخاصّة، فأتَعَرّى بذلك أمامك، ليس مِن مَلابسي كما عَوّدني أبناء جنسك، بل مِنَ الصّورة المُزَيّفة التي أعيش بها مُكرَهَة. فقلتُ لها مُقاطعًا: أهَنّئك على شجاعتك في التّعَرّي مِن الصورة المُزيّفة. قالت: والتّعَرّي مِن الملابس أليس فيه شجاعة؟ قلتُ لها: كلّا، بدَليلٍ أنّ كل واحدة تستطيع أن تَتَعرّى مِن مَلابسها، ولكن ليس كل واحدة تستطيع أن تقول إنّها تَعَرّت.

   6 وكثرة التضييق تُوَلّد الإنفجار خاصّة في المغامرات العاطفية. وكنت دائمًا أمانع في البداية ثم أقبل بعد الإلحاح حيث يقترن النقيضين: الخوف والجرأة، ودائمًا تتغلّب الجرأة في معظم الحالات. وكنت أرتجف مِن الخَوف ولكنّ حشريّتي ورَغبتي في اكتشاف المجهول تجعلني أكذب معظم الأحيان. قلت لها: كل فتاة تَخضع للتقاليد الصارمة لا بدّ أن تَتَمَلّكها عُقدة الخَوف مِن أيّ شيء يُعتَبَر ماسًّا بسُمعتها وخُروجًا على المألوف في بيئتها، فتَضطرّ الى مُمارسة الحَذَر والحِيطة في جميع تَصَرّفاتها. وهذه المُمارسة تُرَبّي فيها القدرة على إرتجال الحِيلة والكذب في المآزق. فالحاجة هي أم الإختراع. فقالت: لماذا أجد نفسي عاجزة عن إختراع حَلّ لمُشكلتي التي هي اليأس والكآبة والضياع؟ قلت: لأنّ الحاجة الطارئة شيء والمُشكلة المُستعصية شيء آخَر. الأولى مأزق يُستعان عليه بالحِيلة والثانية تُعتَبَر مَرَضًا. ولكنّي لم أعرف قبلًا بنتًا مثلك تقدم على كشف مغامراتها ومغامرات الآخَرين معها بمِثل هذه الصراحة والبساطة والعَينَين الدّامِعَتَين. ويا ويلنا، نحن أبناء الحياة، عندما يَصبح التورّط، كل تورّط، قصّة فتاة تُقرَأ في كتاب مَفتوح.

   7 ثم تابَعَت قائلة عندما أظلَمَت الدنيا في وجهي، رُحتُ أشكي هَمّي الى صَديقة تعمل سكرتيرة خاصة عند ثري عربي يملك بيتًا أنيقًا في الجبل. فخَطَرَ لها أن تُعَرّفني إليه عندما يأتي الى لبنان، وقالَت إنّه لطيف وكريم ويَستطيع أن يساعدني لوَجه الله. وبالفعل كان شابًّا لطيفًا وَسيمًا وكَريمًا حقًّا، إذ لم يلبَث أن أظهَرَ إستعداده لمُساعدتي حتى إنهاء دروسي. وخَصّص لي مبلغ 2000 دولار كل شهر. وأُصِبتُ بنوبة بكاء سَبَبها الخَجَل مِن نفسي والخَوفُ مِن قبول هذه المساعدة السَّخيّة التي كنت في أمَسّ الحاجة إليها. وبادَرَ مع السكرتيرة الى تهدئتي وإقناعي بأنّ المساعدة بريئة وأستطيع إعتبارها دَينًا أسَدِّدُه ساعة أشاء. عندئذٍ هَدَأتُ لأنّ أسلوب العَطاء كان رَقيقًا ونَظيفًا أيضًا ضمن حُدود اللّطف وكَرَم الضيافة. وبالفعل كان شابًّا ثريًّا وابن حلال، بالإضافة الى أنّه مُهَذّب مُؤَدّب وله عينان جميلتان تشعّان بالذكاء والطيبة والإطمئنان. وطال غيابه عن بيروت، وصرتُ أشتاق الى لقائه لأنّه وفّر لي حياة هانئة سعيدة خالية مِن هَمّ المَصروف، فصرتُ أهتَمّ بأناقتي فأرتدي ما يحلو لي مِن مَلابس العَصر، فصار الشبّان يَحومون حَولي، والزميلات يتنافسن على صداقتي ومُرافقتي الى المطاعم والسينما والبلاجات.

   8 وذات مساء جاءت لزيارتي زميلة حُرّة مُتَحَرّرة وأخذَت تضحك وتَرقص وتُغنّي وتَتَشَقلب فوق سريري كأنّها مُحشّشة وهي تقول إن الحشيش يَجعل الإنسان سَعيدًا مُفرفشًا لا يَنقطع عن الضحك ويَستسلم الى النشوة والسعادة والأحلام السعيدة والجميلة. وطَلَبَت مِنّي أن أجرِّب الحشيش، فقلت: أعوذ بالله! وكان جوابها وهي تضحك: قُلتُها قبلك ثمّ أشعَلَت سيجارة وطَلَبَت مِنّي أن أجرّب فتَرَدّدتُ ثم جَرّبتُ وفي البداية أخذت أكحّ وكدتُ أختنق. ومع التكرار صرتُ مثلها أضحك وأرقص وأغنّي. وهكذا تَعَلّمتُ التحشيش... وأصبَحتُ ضَحيّة التحشيش لأنه يُشعرني بالنشوة ويُنسيني مَأساتي... ثمّ قالَت: عندما أجدُ نفسي أهرب مِنها الى الحشيش الذي يساعدني على النسيان. وكنت وَقتئذٍ بنت 15 سنة، فلماذا لا أعيد الكرّة وقد دَخَلتُ في الـ 17 وصار جسمي أطول وأجمل، كما صار صَدري أكبر وأكمل؟ فطَوّقتني بذراعيها وانهالَت علَيّ بالقُبلات الحارّة في وَجهي، ثمّ في فَمي... وطَلَبَت مِنّي أن أنام مَعها في السرير. ومانَعتُ فأخَذَت تلحّ وهي تخلعُ ثيابها وتقفُ أمامي وأمام المِرآة عارية إلّا مِن ورقة التين. وقالت لي: إشلحي ثيابك. فعُدتُ الى المُمانعة وعادَت الى الإلحاح وانتهى الأمر بأن نَزلتُ عند رَغبتها وشَلَحتُ، ووَقفنا أمام المِرآة ننظر الى أجسامنا العارية ونُطيل النظر ونُجري المقارنة. ومنذ ذلك الحين اعتَدتُ التَّعَرّي أمام المِرآة والنَّظَر الى جسمي وخاصّة صَدري، بكثير مِن الإعجاب والإعتزاز.

   9 وتَطَوّرَت هذه العادة مع الأيّام، فصارَت على المَكشوف... وأقصد أمام الغَير، وفي سهرات خاصّة تَرُوج فيها الخَمر والرّقص والحَشيش ولكن دون أن أتَخَلّى عن شيء واحد، هو ورقة التين. قد لا تُصَدّقني، ولكن ثق بأنّها الحقيقة، فأنا لا أزال حتى الآن، رغم كل التجارب والمغامرات، عذراء تحرص على إغاظة الرجال وإذلالهم أكثر مِن حرصها على عود الكبريت الذي لا يشتعل إلّا مرّة واحدة. وظَلّت صَديقتي تصرّ على أن أنام معها في السّرير عارية وهي كذلك. ولن أذكر ما حَدَثَ بعد ذلك لأنّه مُخجل. ثم قالَت: أنا لا أؤمن بالزّواج ولا بالحُبّ ولا بالرجال بصورة خاصّة. فقلتُ مُستدركًا: كل الرجال؟ قالت: نعَم، كلّهم... فقلتُ: وأنا مِنهم؟ فأجابت: يَجوز... فأنا لم أعرفك جيّدًا بعد. قلتُ: أمّا مِن ناحيتي فقد عَرفتُكِ جيّدًا جدًّا. قالَت: ماذا تقصد؟ عندئذٍ قلتُ لها: أقصد أنّكِ فتاة مَريضة وسِرّ مَرَضك هو أنّكِ أنتِ تظلمين نفسك وتَتََصَوّرين أنّ الناس يَظلمونك. ولم أندَم على قُسوتي هذه، وإن تَسَبَّبَت في انفجار دُموعها ما دامَت هي التي جاءت تسألني: ماذا أفعل؟ وانتَظَرتُ حتى هَدَأت، فقُلتُ لها: أرجو أن تُكمِلِي قصّتك وأكَّدتُ لها مُساعدتها ثمّ إستخلاص العِبرة والفائدة مِن قصّتها.

   10 ثم تابَعَت تقول: بَدَأ معي الثّري العربي لَطيفًا عَطوفًا خالي الغَرَض كما كما بدأتَ أنتَ معي الآن، وفجأةً تَبَدّل، وأصَرَّ ذات ليلة على الرومانسية والموسيقى ثم القبلات والعناق والضمّ والقُبُلات الحارّة والمُداعبات وغيرها حتى وَصَلَ أخيرًا معي الى محاولة إسقاط ورقه التين، فمانعتُ وبقيتُ أمانع حتى تضايق فاستدعى سائق سيّارته وأمَرَه بأن يُوصلني الى بيتي. وانقَطَعَ على الأثر وقَطَعَ المساعدة، فعُدتُ أعاني وطأة العوز والدّيون، بعدما اعتدتُ تعاطي الخَمر والحشيش... وكل هذا نتيجة تمَسّكي بوَرَقة التين، لا عن عفّة كما سبق وذكرتُ، بل عن رغبة في الكَيد وعن إقتناع بأنّ ورقة التين تُعطَى ولا تُؤخَذ. هنالك شخص واحد فقط شعرتُ نحوه بالحبّ وبالرغبة في التخلّي عن ورقة التين، ولكنّه تَسَرّع في طَلَبِها ولم يُحسن إختيار الوَقت ولا الأسلوب. وحكايتي معه طويلة، بدَأت في مطعم ثم سهرة، مِن أوّل إعجاب وأوّل لقاء بيننا، فكانت نَظرة فابتسامة فسَلام فكَلام... فصُعود الى بيته في الجبل.

   11 ومرّة أخرى كُنّا على شاطئ البحر ثلاث فتيات وشابّين. وكنتُ أنا الفتاة الزائده في الشلّة. لذلك حاوَلتُ في البداية أن أعتَذر، فرَفَضَت الفتاتان إعتذاري، وقالت إحداهما: إن وُجودَكِ مَعنا ضروري. قلتُ لماذا؟ قالَت: لأنّنا عندما نكون ثلاث فتيات وشابّين تضيع الطاسة، ويصبح باستطاعة كل واحدة مِنّا، عند الحَشرة أن تَدّعي البراءة. وقبلتُ الدّعوة على هذا الأساس. وتَمَنّيتُ أن أصادف في هذا المشوار شابًّا أصادقه وأنتقم بصَدَاقتي له مِن الثري العربي. وبعد أن ارتَدَيتُ أجمل مَلابسي على ذوق الفتاتين، أقبَلَت سيّارة خاصة يقودها شابّ وَسيم، وفي جواره الشاب الآخَر وكان أقَلّ مِنه وسامة. وكان لهما علاقه بالفتاتين مِن قبل، يَخرجان في نزهات عاطفية... وصَعدنا الى السيّارة بعد تعارف سريع، وجَلَستُ في المقعد الخلفي الى اليمين، فأخذَ الشاب السائق يَختلس النّظر إلَيّ في المِرآة طوال الطريق، فيما كان الشاب الثاني يُلصقُ ساقَه بساقي بحَرَكَة ليست عفويّة ولا بَريئة. إنّ الرّفيقة الزائدة في أيّة شلّة، تُحَرّك غرائز الرجال وتثير فيهم رغبة التحرّش طَمَعًا في امتلاك الرّزق السائب. وكادَت السيّارة تفقد توازنها أكثر مِن مَرّة دون أن ينتبهَ أحَد الى السّبَب. وبعد وُصولنا الى شاطئ البحر، ظلّ الشاب الأكثر وسامةً يَختَلسُ النظر إلَيّ مِن وراء ظهر صديقته وصديقتي. وكنتُ أحَوّلُ نَظَري دائمًا، الى أن التقَت النظرتان وأحسَستُ بالرّعشة البكر.

   12 وكان بعد ذلك أن ارتدَينا مَلابس البحر، فراحَ الشاب يَحوم حَولي ويَهمسُ في أذني بكلمات الإعجاب فأشعر بالإرتياح، كما أشعر بالخَجَل والإرتباك حين يُحَدّق الى جِسمي وصَدري كأنّه يُعَريني تمامًا. ولمّا كُنّا على المائدة، مَدّ قدَمَه مِن تحت المائدة ولامَسَ بها قَدَمي، فبادرتُ الى إبعادها، وبادَر هو الى مُطارَدَتها، فإذا بي أضعف وإذا بالقَدَمَين الحافيتين تلتقيان في لَمس خَفيّ مُتصاعد. واتّضحَ لي، مع مُرور الأيّام وتَعَدّد التجارب، أنّ ما يَجري تحت المَوائد هو أكثر وأخطر مِمّا يَجري فوقها. حَدَث مَرّة أن كنتُ في ضيافة صديقة عزيزة، وحَظّ الصديقات العزيزات سَيّء معي دائمًا، رغم إرادتي... فإذا بزوجها الفاضل يُصِرّ على إلصاق حذائه بسكربينتي، ولا يكتفي... بل يخَلع فَردة الحذاء ويطلب منّي، بالحَرَكة والإشارة، أن أخلعَ فَردة السكربينة ليكون الإلتِصاق أكثر. وقد فَعَلتُ ذلك لأنّي أجد لذّة في اكتشاف أخلاق وطباع الرجال نعومة وحساسية... وانتهى الغداء في طبرجا، واتّفق معي الشاب سِرًّا على اللّقاء معي في مَساء اليوم نفسه حيث صَعدنا الى بيته في الجبَل. ولم أمانع في الإقدام على هذه المُغامرة لأنّي كنت تحت تأثير نشوة الحب، ونشوة الخَمر. ودخلنا الى إحدى غرف النوم في بيته وغرقنا في نَعيم مِن الضمّ والعناق والقبلات المَحمومة... وطلَبَ مِنّي أن أتَعَرّى مِن ثيابي ففَعَلتُ دون تَرَدّد كأنّي كنت أنتظر هذا الطلب. وعندما رآني أحتَفظُ بوَرقة التين ضحك وقال: "أكملي مَعروفك". فضَحكتُ بدَوري وقلتُ: ليسَ الآن، دَعها لمَرّة ثانية. وبعد إلحاح مِنه وتَمَنّع مِنّي إكتفى بالعطاء المَحدود، وكان مِثلي في منتهى السعادة. أي أنّه لم يَغضَب كما غضبَ الثري العربي. واستَمَرّ حُبّنا، كما استَمَرّت نزهاتنا وخلواتنا، وكانت أزمَتي المالية تَشتدّ خلال ذلك، فلا أدَعه يَشعر بها ولا يُشَجّعني هو على إشعاره. كان يُنفقُ عَلَيّ عندما نَذهب الى المطاعم والسينما والبحر، ويَتركني غالبّا وليس في مِحفظتي ليرة واحدة.

   13 وغاب مرّة يَومَين شَعرتُ خلالهما بالجوع. وجاء في اليوم الثالث ليَجدني مُنطوية على نفسي في سَريري المُبَلّل بالدّموع، فأخذ يَعتذر عن غيابه ويَسألني لماذا أبكي، فلم أشأ أن أقول له إني جائعة، بل فَضّلتُ أن يُدركَ ذلك بنفسه ويَتَداركني بسندويش... ولكن هيهات! لقد جَلَسَ على حافّة السّرير وانحَنَى يُقَبّلني، ولمّا كانت القبلة لا تشبع جائعة فقد شعرت بالمَزيد مِن الضيق والعذاب، ووَجدتُ نفسي أصرخ في وَجهه أن يتركني وشأني. وبعد انصرافه أغمي عَلَيّ ثمّ أفقتُ مِن إغمائي على صوت تليفون سائق سيّارة الثري العربي يسأل عَنّي ويُعَبّر عن شعوره الشخصي نحوي. لم ينسَ أنّي كنتُ أكرمه كُلّما جاءني بالـ 2000 دولار فطَلَبتُ مِنه أن يأتي في الحال ومعه سندويش فأتى بصحبة رجل أرمَني مِن أصدقائه... كان الشاب الأرمني نرسيس طويل القامة ضخم الجثّة وعُمره 45 سنة. وقال السائق مُخاطبًا نرسيس وهو يُشير إلَيّ: تَصَوّر أنّها فضّلَت الجُوع على أن تُسَلّم نفسها لأحد أغنى الشبّان وأكثرهم سخاءً. واسترسل في الكلام. وكان نرسيس يُصغي وهو يَنظر اليّ بإعجاب وحَياء. وصرتُ أخرج مع نرسيس، فكان يُنفقُ على طعامي وشرابي ويَضَع في مِحفظتي بعض المال، ثم يُسَجّل كلّ شيء في دَفتر صغير مُرَدّدًا أنّه هكذا إعتاد. ولم أكن أحبّ فيه هذه العادة. لقد تَرَكتُ المدرسة وبات كل همّي أن أحصل على المال دون أن أتخلّى عن ورقة التين. لماذا؟ لا أعلم، ولا دَخل للشّرَف الرّفيع في المَوضوع. كانت ورقة التين هي كل ما أحتفظ به، بل كانت هي عُقدتي وسَبَب خناقاتي مع الجميع. هم يُريدون إسقاطها وأنا أصرّ على الإحتفاظ بها. وكلّما إزدادوا إلحاحًا إزدَدتُ إصرارًا. وعَجزوا كلّهم عن إقناعي بالإستسلام الكامل. أمّا نرسيس فكان أغربهم بطريقته في الحب. لقد أحبّني بسرعة، ولا أنكر أنّي مَهّدتُ له الطريق، فكنتُ أثني على إهتمامه بي وتَصَرّفه النبيل نحوي؛ والرجال أطفال، يَغرّهم الثناء خُصوصًا إذا اقترن بالنظرة والإبتسامة ورفقة اللّيل. كنتُ أخرج معه الى المطاعم والسينما والملاهي فألتَصقُ به ساعاتٍ دون أن يَلمَسني أو يُعَبّر عن حُبّه لي بأكثر مِن النظرة الخجلى.

   14 ويصدف أن يدعوني أحد الشبّان الى الرّقص فلا يُمانع نرسيس ولا تبدو عليه الغِيرَة، بل يَبدو الإرتياح والإعتزاز وهو يَراني أرقص فأجتذب الأنظار بجَمالي ورَشاقتي وسَاقيّ العاريّتَين. ويُرافقني في نهاية السهرة ويَدخل معي الى غرفة النوم فيَجلسُ على المقعد أو على حافّة السرير ويَشهدُ إستعدادي للنّوم، ثم يُقَبّلني في جَبيني ويَنصرف. ومع التكرار، صرت أستَعِدّ أمامه وأصرف النظر عن الملابس باستثناء ورقه التين. وكما نسمع هدير الزلزال مِن باطن الأرض، هكذا كنت أسمع هدير نرسيس مِن الدّاخل، فأنتظرُ أن يثورَ ويَنفجرَ لأقاوم كعادتي، وكما هي لذّتي، ولكنّه يَظَلّ هادئًا ساكنًا وهو يَهدرُ هديره المَكتوم. ولَعلّه كان يريد أن أكون أنا البادئة، فأتحرّش به وأراوده عن نفسه وأقول له: "تعال"... إنّ طبائع الرجال لا تَقلّ غرابة عن طبائع النساء في العلاقات العاطفية، ونرسيس واحد مِن أغرب مَن عَرفتُ مِن الرجال. وأنا بطَبعي لستُ مادّيّة، وأصعب شيء على نفسي أن أقبل مالًا مِن أحد، ولكن ماذا أفعل؟ جَرّبتُ أن أعمل سكرتيرة وبائعة ومُضيفة طيران، فسُدَّت جميع الأبواب في وَجهي. وعندما كانت تُفتحُ أحيانًا، كان يُطلَبُ مِنّي أن أدفع الثمن، فأرفض.

   15 وهنا قاطعتُ الآنسه X بقولي: يَظهر أنّ حظّكِ كان سَيّئًا الى حَدّ أنّكِ لم تَقَعي إلّا على أناس سَيّئين. والشاب الوَسيم الذي خَطَفتِهِ مِن صاحبته كنتِ تُحبّينه ولا تزالين، فالحُبّ يَحمل على التضحية والإنتحار فكيف على التساهل؟ وسبق وقلتِ إنّكِ لا تؤمنين بالحُبّ، ولا بالزواج، ولا بالرجال عُمومًا. فانتَفَضَت قائلةً: إنّكَ مثل غيرك، لا تريد أن تفهمَني. أقول لكَ إن اليأس تَمَلّكني بعدما عَرفتُ الرجال وجَرّبتهم، فلم يشعرني أحد مِنهم بالعطف البريء والحُبّ المُجَرَّد، حتى الشابُّ الوَسيمُ الذي أحبَبتُ، كان أنانيًّا بحَقّي فقد هَجَرَني لأني أعطيته الكثير وهو يريد الأكثر بلا زواج، حتى ولا إنفاق على ضرورات العَيش. وقد جاء بعده عديدون فكانوا مِثله وأسوأ مِنه. كُلّهم أنانيّون يُحبّون أنفسهم في قربي ولا واحد مِنهم يُحبّني لنَفسي أو يَحبّ ما لا يُرَى فيّي. كُلّهم يُحبّوني لأجل ذواتهم ولا واحِد مِنهم يُحبّني لأجل ذاتي.

   16 وتابَعَت الآنسه X قائلةً: ذات يوم ذَهَبتُ مع سكرتيره الثري العربي مُلَبّيَة دَعوة الى العشاء مع رجلٍ سياسي مَشهور في فندق فخم وحَذّرتني مِن أنّه "زير النساء" ولكنّه لطيف جدًّا. فقُلتُ لها (للسكرتيرة): إذا كان زير نساء فما حاجته الى عذراء؟ قالت: إنّه يَذوب في العذارى وهو كبير في السن. وهَزّني قولها: "كبير في السن"، لأنّي أجد في نفسي مَيلًا الى الرجال الذين تجاوزوا سن الشباب، لاعتقادي بأنّهم أكثر عَطفًا وأكثر نضجًا وتجربة. ثمّ أنّي أحبّ الشُّهرة وأنا مَدعُوّة الى العشاء مع سياسي مَشهور. وطالَت السّهرة بعد مُنتَصَف اللّيل، وقد حَرص على أن أروي له قصّة حياتي ففَعَلتُ، ولم أخفي عنه شيئًا، ولا هو أخفى عنّي حُبّه للجَمال وضعفه أمام الجميلات، ولكن دون أن يَستَقرّ على واحدة. أمّا الآن، وبعدما عَرفني وأحَبّني، لأنّي أجمل وأصغر وأذكى فتاة ظَهَرَت في حياته، فإنّه على إستعداد لأن يَستقرّ عليّ الى الأبد. وطَلَبَ مِنّي أن لا أعاشر أحدًا سواه. وأضاف أنّه لا يستطيع، لأسباب قاهرة، أن يَتَزوّجني، ولكنّه يَستطيع أن يُوَفّر لي السعادة والشهرة ويُساعدني على الزّواج بغيره في المُستقبل، إذا كان ذلك لمَصلَحَتي.

   17 وهكذا تَفَتّحَت أمامي كل أبواب الأمَل والرّجاء دفعة واحِدة وفَرَشَ طريقي بالوُرود والأحلام الجَميلة. وعُدتُ مَعه في سَيّارته الفخمة ولم يَطلب شيئًا طوال الطريق، بل اكتفى بأن طَوّقني بذراعيه وترَكَني أسندُ رأسي الى صدره لأشعر بالأمان والإطمئنان وأتَلَقَّى قبلاته الناعمة الحَنونة في شَعري. ثمّ وَدّعني بحنان ووَضعَ في مِحفظتي دون أن أراه مَبلغًا مِن المال وقدره 2000 دولار. وكَرّت الأيّام واشتَدّت بيننا أواصر العلاقة العاطفية فكنت لا أعاشر أحدًا سواه، وكان راضيًا وسَعيدًا بتساهلي الذي ينتهي عند حدود ورقه التين. ثمّ قام بيننا صراع على المكشوف وأصبَحَ هو كلّ يَوم مع واحِدة، وأنا كلّ يوم مع واحِد مِن أصدقائه السياسيّين.

   18 وذات مساء قَرَعَ بابي وكان غاضبًا أشَدّ الغَضَب لأنّي خَرَجتُ مع فلان وفلان مِن أصدقائه، ولم أكتفِ بذلك بل تَعمّدتُ إخبارهم بعَلاقَتي به... وقلتُ له: أنا حُرّة أخرجُ مع مَن أشاء وأفعل ما أشاء. وفقَدَ صوابه، فهجَمَ عَلَيّ وهو يَصرخُ: فَشَرتِ يا "كذا". وانهالَ عَلَيّ بالضّرب على وَجهي ورَأسي وأذُني، فسَقَطتُ على أرض الغرفة وأنا أصرخ وأتألّم وهو يَزداد ضَربًا بيَدَيه ورَكلًا بقَدَمَيه، فإذا بالدّماء تسيل مِن فَمي، ولا يَتَوَقّف عن الضّرب ولا عن الشتم والصراخ: تقولين إنّكِ عذراء وتخرجين كل يوم مع رجل؟ أنتِ كاذبة، أنتِ أكبر "كذا" عَرفتُها... واختَلَطَت دُموعي بدِمائي وأنا أتَوَسّل أن يَكفّ عن ضربي، وأن يأتي بطبيب ليتأكّد مِن أنّي لم أكذب عليه ولا أزال عذراء. وأخَذَته الرّحمة فهَدَأ، وأخَذَني الإنفعال فنَهَضتُ وصَرَختُ: إذا كنتَ لا تُريد أن تأتي بطبيب، ولا تريد أن تُصَدّق، فتَعالَ وتأكّد بنفسك... تعالَ، وسأتَخَلّى عن ورقة التين لأثبت لكَ أنّي لست كاذبة، ولا أكبر "كذا"... وظَلّ واقفًا مَكانه لا يَتَحَرّك، وأنا أتَحَدّاه بصُراخي ودُموعي، وبالدّماء التي تنزف مِن فَمي، وبِعُرِيّي الكامل. وفجأة رأيتُه يَجهَشُ بالبكاء، فكدتُ لا أصَدّق أنّ الذي كان وحشًا قبل لحظات يتحوّل الى إنسان بهذه السرعة. وطوّقني بذراعيه، ثم أخذَ يَمسَحُ دُموعي ودِمائي ويُعالج آثار الضرب في جِِسمي بالضمّادات الباردة.

   19 وشعرتُ بعد هذا "البَدَن" بأنّي صرتُ أحبّه أكثر، إذا لم أقل صرتُ أحبّه فعلًا. وبعد كل هذا، هدَأ وصَدّق وبَكَى خَجَلًا مِن نفسه، ثمّ تعانقنا وتصالحنا ولم يَتَرَدًد في أن يُلبسَني ثيابي... ثمّ دعاني الى العشاء والسّهَر فكُنتُ في تلك اللّحظة مُسَيّرة لا مُخَيّرة، وكان هو الذي يُسَيّرني ولا أزال مُسَيّرة الآن، ولكن ليس مِن أحد، بل مِن القدر. وتجدني، وأنا أروي قصّتي، أشعر بالآلآم، ولكن ليس في جِسمي هذه المَرّة، بل في أعماق نفسي وكياني. إنّي ضائعة، يائسة، مُعَذّبة، وأنا لا أطلب الشفقة مِن أحَد. كلّ ما أطلبه هو أن أعثر على الإنسان الذي يَفهَمني مَهما كان عُمره ووَضعه الإجتماعي والإقتصادي... وعندما وَصلنا الى المطعم الفخم أسندتُ رأسي الى صَدره وأسلمتُ كتفي الى ذراعه المَفتولة، وكان يَشدّني بكثير مِن الرّفق والحَنان ويَهمسُ في أذني بكلمات الحبّ والأسَف والنّدم لأنّه ضَرَبَني، ويُرَدّد: سامِحيني يا حبيبتي. وجِِيءَ لنا بالعشاء، فأخذ يزقمني اللقمات كأنّي طفلة، ويَزداد نَدَمًا وألَمًا كُلّما وَجَدَ أنّي ألاقي صُعوبة في مَضغ الطعام بسَبَب الألم والأوجاع. وظلّ على هذه الحال مِن إظهار الحُبّ والحنان والإهتمام، الى أن بدأ النوميرو بفرقة أجنبيّة تضمّ راقصات شبه عاريات، فانشَغَلَ عَنّي ولم يَعُد يَشعر بوُجودي، فقد إجتَذَبَته الأجسام الرشيقة واستأثَرَت بكل حواسه. ولو كُنتُ أنا الغَريبة التي أرقص أمامه شبه عارية، وكانت مَعَه أيّة إمرأة قريبة، لحَدَثَ نفس الإنجذاب والإستئثار.

   20 وهؤلاء هم الرجال لا يَشبعون ولا يَكتفون بما قُسِّمَ لهم مِن أرزاق، بل يَظَلّون في جُوع دائم الى كلّ رزق يَلوحُ أمامهم. وانتهى الرّقص، فعاد يَشعرُ بوُجودي ويَسألني: هل أنتِ بخير يا حبيبتي؟ ورغم كل ذلك لم أشعر بحاجة الى البكاء ولا بالإستعداد للنّقمة والكراهيّة، وإنّما شَعرتُ بأنّ ما حَدَث لي كان شيئًا جديدًا في حياتي جَعَلَني أعودُ الى نفسي وأعترفُ بأنّي فتاة ضعيفة أمام الرجل القوي حتى ولو ضَرَبَني بأقسى أنواع العُنف.

   21 وبعد يَومين ذَهَبتُ في الشارع أسيرُ بلا هَدَف ولا إحساس بغَير وَطأة الجُوع والتَّشَرّد والحرمان العاطفي... أدرَكتُ الحقيقة مِن خلال تجاربي، وهي أنّ تَمَسّكي بورقة التين هو الذي أوصَلَني الى هذه الحالة مِن الجوع والتشَرُّد. فإلى مَتى أظلّ مُصِرّة على التمَسّك بها؟ إنّ الشرفَ الرفيع لا يُقاس بهذه الورقة الصغيرة، وخاصّةً إذا كانت صاحبتها فتاة مِثلي لم تعد تملك مِن مُقوّمات الشرَف شيئًا سوى ورقة التين! ومع ذلك فإنّ الرجال الأفاضل يَكرهون في سِرّهم أن أحتفظ بهذه البقيّة الباقية مِن مُقَوّمات الشَّرَف، ويُصِرّون على إستباحتها، فإذا رَفَضتُ تَخَلّوا عنّي وطَرَدوني مِن قلوبهم ومِن شققهم الفَخمة المَفروشة... ولو قَبلتُ لكانوا أشبَعوا شهواتهم، ثمّ انضَمّوا الى أنصار الفَضيلة الذين أرادوا أن يَرشقوا الزانية بالحجارة. وكنت دائمًا أشعر بنَشوة الإنتصار على الرجال. أمّا الآن، فإنّ الشعور بالهَزيمة هو الذي يَطغى عَلَيّ ويَجعلني أفكّر في الإستسلام، ما دام في ذلك الحصول على المأوى والرّغيف.

   22 وخَطَرَ لي، بدافع مِن الغَضَب والحِقد والإنتقام والرّغبة في التحَدّي، أن أقف الآن في وسط الشارع وأصرخ بأعلى صَوتي: ورقة تين للبيع... مَن يشتري؟ مَن يأخذها بوَجبة عشاء، بإقامة تحت سَقف، بشراء فستان، بدِفقة حنان؟ وإذا كان الحنان صَعبًا أو مَفقودًا، فبالغِذاء والمَأوى فقط... فَهَيّا يا رجال، يا أكلة لُحُوم النساء! خَطَرَ لي أن أفعل ذلك، فأعرض الورقة الغالية ومَعها الصّبا والجَمال، بالثّمن البخس والطريقة المَجنونة... ولكنّي خَشيتُ أن أُرشَقَ بالحِجارة مِن غير أن يَتمّ البيع والشراء لأنّ الرجال اعتادوا أن يشتروا أوراق التين في السّرّ لا في الجهر، ووَراء الجدران لا في الشارع العام.

   23 وتابَعتُ سَيري بلا هدَف ولا تَوَقّف مُجتازة الشوارع، أمشي على غير هُدًى الى أن لَمَعَت في رأسي فكرة الخلاص وأنا أقف جامدة بلا حراك أمام صخرة الإنتحار. وتَجَسَّمَت أمامي كل مآسي حياتي، وكلّ ذُنوبي أيضًا... فأخَذَت نفسي تُحَدّثني بأنّه خَير لي أن أكونَ مَظلومة مِن أن أكون ظالمة، وأفضل أن أكون شَهيدة ضعف الغَريزة مِن أن أكون رَجلًا قَويًّا ساحِقًا زهور الحياة. أنا مَظلومة وأصبَحتُ الآن شهيدة الحيوان المُختبئ في الإنسان. لقد كانَت دُموعي كلمات يَقرأها الرجال ضاحكين لأنّهم لا يَفهمونها، وإن فَهموها إنقَلَبَ ضحكهم فُجورًا وقَساوةً وغَضَبًا وشتائم... أرى الآن المَنازل الجميلة والقصور الفخمة يَسكنها الكذب والتصَنّع والإحتيال وفيها يَختبئ الذلّ والشّقاء والتعاسة. هي قبور مُكَلّسَة فيها مكر المرأة الضعيفة وأنانيّة الرجل وغريزته الحيوانية، وفيها الكره والبغض والغشّ والخداع والشرَف المَوروث المُزَيّف... هذه القصور هي قبور لا أريد أن أدفنَ فيها حَيّة مع الذين يَقترنون بالأجساد ويَتنافرون بالرّوح. أنا لا أدينهم بل أشفق عليهم. كثيرًا ما أباحَ لي الغرور أن أتَعَلّق بحُبّ الرجال الأغنياء والسياسيّين المَشهورين، لأنّ شغفي ببَهرَجَة المَلابس ونُعومة العَيش أعمى بَصيرَتي وقادَني الى فكرة الإنتحار. والآن أصبَحَ ظمأ وعَطَش رُوحي أعظم مِن إرتواء جَسَدي، وأصبَحَ خَوف نفسي أحَبّ إلَيّ مِن طَمَأنينة جَسَدي.

   24 إنّ قلبي لا يَتَغيّر مع الزّمَن ولا يَتَحَوّل مع الفُصول. إنّه ينازع طويلًا ولكنّه لا يَموت. فالنّور لعُيوني والأنغام لأذني والأجنحة لرُوحي. لَوعَتي عَظمَت فأصبَحَت خَرساء. أريد أن أصبحَ رَمزًا لهذه الأمّة المَظلومة المُتَعَذّبة. لقد حاول الرجال إدراك حقيقة أمري وحُبّي، ولكنّهم لم يَفهموا أسرار قلبي ومُخَبّآت صَدري ومَشاعري وأحاسيسي، لأنّهم يَنظرون إلَيها مِن خلال شَهَواتهم الغريزيّة فلا يَرون غير مَفاتن جَسَدي آمِلين أن يَجدوا فيها الضعف والإستسلام. فالحُبّ المَحدود يَطلُبُ إمتِلاك المَحبوب، وعَذاب القلب بثَباته أمام المَصاعب والمَتاعب هو أشرف مِن تَقَهقُره الى حيث الأمن والطمأنينة. والإخلاص في الحبّ يَجعَلُ جَميع مَظاهر الحياة حَسَنة وشَريفة. لذلك أريدُ أن أموتَ شوقًا ولا أحيا مَلَلًا. أنا لا أبَدّل أحزان قلبي بأفراح الناس.

   25 وكانت عاطفتي تَتَلاشى في لَحظة مِن الزمان عندما كنتُ أدرك أنّ كلّ ما يُريدُه الرجال مِنّي هو أن أكون عذراء فقط. إذن فلا الحب، ولا الرّوح، ولا مَعنى العطاء، ولا أي شيء آخَر يَجعلهم يُحِبّونني ويَحرصوا على حُبّي. رأيتُ الحُبّ والبغض يَلعبان بالقلب البشري، والإنسان بينهما في حيرة تَميل به نحو الأمَل تارّة واليأس أخرى. والحيرة هي بدء المَعرفه ومَن لا يرى الأحزان لا يرى الأفراح. كنتُ كآلَة موسيقية في يَد الرجال فلَم يُحسِنوا الضرب عليها فسَمعوا مِنّي أنغامًا لا تُرضيهم. وكان المال بين يَدَيّ المَيسورين مِنهم شبكة فَشَلهم معي، وبين يَدَيّ البَخيل مِنهم مَجلبة لمُقتي وكرهي لهم، وبين يَدَيّ الصادق مِنهم في حُبّه لم أرى مالًا. لقد قادَني المال الى الإنهماك، والإنهماك قادني الى الشّقاء فأصبَحتُ الآن سَجينة العادات والتقاليد أتَصنّع بمَلابسي مِن أجل إرضاء الرجال.

   26 تَمَتّعتُ بالرّومانسية والحُبّ، بالقُبُلات والضمّ والعِناق، وهذا جَسدي يبقى أبدًا قتيل الشّوق والتفريق. وها أنا الآن أشرب الدّمع وأتَنَشّّق الحزن. أنا أخرَجتُ آدم مِن الجَنّة بقوّّة إرادتي وضعف آدم، وأنا قادرة الآن على إعادته الى تلك الجَنّة بحُنُوّي وإنقيادي. والآن أصبَحتُ لا أرى إلّا ما وَقفَ عَثرةً في سَبيلي. مَصائبي فَتَحَت بَصيرَتي، ودُموعي جَلَّت بَصَري، وحُزني عَلّمَني لغة القلوب. كانت النظرة الأولى أوّل بذرة ألقاها الحُبّ في قلبي، والقبلة الأولى كانت أوّّل زهرة في غصن حياتي. فأين هي الآن أوّّل ثمرة للحُبّ؟ لقد أظهر لي الفقر شرَف النفس والغِنى بَيّّن لي لُؤمها. والحزن لَطَّفَ عَواطفي. كنتُ ألعَنُ الحياة وأباركها وها أنا الآن أتَأمّل بها. لقد تَغَلّبتُ على الرجال بقُوّّة استَمدَدتُها مِن الرجال. المال أماتني بدون ألَم والحبّ أحياني بالأوجاع. والغَباوة عَلَّّمَتني سُبُل المَعرفة. أوجاعي وآلٓامي أصبَحَت لي صَديقًا يُعَزّيني وإن لم أكُن صَديقة لنَفسي لكُنتُ عَدُوّة للناس.

   27 فالحياة تَنبثق الآن مِن داخلي ولم تَجِىء مِمّا يُحيط بي. كُنتُ ضَعيفة القلب كالأرنب وذَكيّة ومُحتالة كالثعلب وخَبيثة وحَكيمة كالأفعى. والآن أصبَحتُ كالغراب شُؤمًا. أصبَحتُ الآن مَنبوذة لأنّ عُيون الرجال لا تَرَى سِوى المَظاهر الخارجية وهم يَستَهوون عواطفي بالوُعود والكلمات الكاذبة التي كانت تُخجلني ولا تُقنعني وتُلَيّن أفكاري ولا تُغيّرها. ومَن مِنهم كان يَنظر إليّ بالعَين التي يَرَى بها نفسه؟ فالحُبّ وَلَدَني والتَّمَرّد أوجَدَني والحُرّيّة نَمّتني حتى وَجَدتُ عند الأغنياء التَّصَنّع والكذب والرّياء، وعند الفقراء وَجَدتُ الخَوف والجَبانة والجَهل. وصَمتي كان نَوعَين: واحِدًا أحدَثَه المَلَل والثاني أوجَدَه الألم. وأنا الآن أبصِر ولا أتَكلّم وأمشي ولا ألتَفِت، ولقد تَغَيّر كَياني المَعنوي ولكِنّه لا ولَن يَضمَحلّ. لقَد ظَنّ الرجال أنّ اللطفَ ضَربًا مِن الضعف، والتساهل نوعًا مِن الجَبانة، والتَّرَفّع شَكلًا مِن الكبرياء.

   28 وكل الرجال هُم مِن جبلة واحدة وهُم لا يَختلفون إلّا في الظواهر والمَظاهر الخارجية. شَخصيّة الرجال غشّاشة لا تُرضي العَين ولا تُغَذّي القلب ولا تَرفَع النّفس، وأحلامُهم هي قُيُود وسلاسل ذَهَبيّة يَجُرّوها دائمًا مُبتَهجين بلَمَعانها، وهي أقفاص يَصنَعونها فيَجدون أنفسهم مَسجونين في داخلها. وعندما تَضمحلّ المُيُول والأماني في القلب البشري تَصبح الحياة خالية مُقفَرّة باردة. وإذا انقَرَضَ الكذب والغشّ والإحتيال والسخرية والنّميمة أصبحَ العالَم كبُستان مَهجور لا تَنبتُ فيه سِوى أشواك الفضيلة. والتجربة التي عِشتها هي مِقياس عَرفتُ بواسِطته أوهام وخداع قلبي، ومِيزان به أدرَكتُ ثقل عَقلي أو خفّته. إنّ أكثر مَن يَعرفني مِن الرجال يَنتَقدني. هذا يقول إنّني مُغَنَّجَة وذلك يقول إنّني عَوجاء. وهنالك فئة مِنهم تَقول إنّني لَئيمة وليس للّلئيمة كَرامة. إنّ السّبَبَ في هذه الإنتقادات الجارحة هو أخلاقي التي لا أقدر أن أغيّرها، ولو قدرتُ لَمَا أرَدت. وليس أصعب مِن حياة الفتاة التي تَجِدُ نفسَها واقِفة بين رجل يُحِبّها ورجل تُحِبّه. وما أمَرّ مَواعِظ السّعداء في قلوب التاعسين، ومَن يَعلمُ أنّ ما وراء العظمة الظاهرة مِن البلايا الخَفيّة. وما زِلتُ أتَمَرّد على ذاتي وأتَشَوّق الى ما ليس لي حتى يَنقَلِب تَمَرّدي الى قوّة فعّالة ويَستحيل شَوقي الى إرادة مُبدِعة.

   29 أنا أموتُ الآن، أموتُ وأنا عالِمَة بما وراء المَكان الذي وُلدتُ فيه، وهذا هو القَصد مِن الحياة. أرجو أن لا تَستَدِلّ على حَقيقة كَياني بما بانَ مِنّي، ولا تَتّخِذ قَولي وإعترافاتي عنوانًا لقصّة حياتي. فالوَقاحة الجَريئة ليسَت ببُطولة والخَجَل الصامت ليس بجَبانة. وليس الناس بوُجوههم بل بقلوبهم. ولا تَحسبني جاهلة قبل أن تفحصني، ولا تَتَوهّمني قبل أن تُجَرّدني، ولا تَقُل شيئًا عَنّي قبل أن تَرَى قلبي. لا تدَعني مَحبوبة حتى يَتَجَلّى لك حُبّي بكلّ ما فيه مِن النّور والنّار. إرحَمني وخُذ مِنّي وأعطني. أشفِق عَلَيّ وخُذ ما مَعي... لم أجِد مَن يُحِبّني، لَيتني كُنتُ راهبة في دَير، فألَم العَطاء أمَرّ مِن ألَم الأخذ. كآبة حُبّي تَتَرَنّم وكآبة خِبرتي تَتَكلّم وكآبة رَغباتي تهمس وكآبة فقري تَندُب... ولكن هناك كآبة أعمَق مِنَ الحُب وأنبَل مِن الخِبرة وأقوى مِن الرّغبات وأمَرّ مِن الفقر، وهذه الكآبة لا صَوت لها لأنّها تَكبُتُ المَشاعر. لقد تَعاظَم حُزني وفَرَحي حتى صَغرَت الدّنيا في عَينَيّ. والحُب الحقيقي ليس بميزة في المُحِبّ بل في المَحبوب. وأنا لا ولن أرتوي مِن الحُبّ ولكن في هذه الحرقة مَسَرّة لا تزول. وأصبَحتُ الآن لا أطرب للمَديح مِن الرجال ولا أخاف مِن مَذَمّتهم. وأنا الآن أتَكَلَّم عَمّا بي وفي كَلامي شيء مِن المُعاناة. وأنتَ تَكتُم ما بك وفي تَكَتّمك شَكل مِنَ الفَضيلة. وما أغرب الحُبّ، هو كالحياة يَمتَلكها كل البَشر وكالمَوت يَتَغلّب على كل البَشَر وكالأبدية تَضُمّ كل البشر. وللإنسان قوّة عَمياء تَثور عند الجنون وتخمد أمام الشهوات.

   30 وعندما كنتُ مُستَعبَدَة بعَقلي ومَشاعري لم أستَطع أن أكونَ حُرّة بمَلابسي وعاداتي. كدتُ أموتُ مَلَلًا لو لم أمَزّق بثَورَتي هذه ما بُلِي مِن أنانيّة الرجل وعاداته وتقاليده المَوروثه بما فيها الشّرَف الرّفيع. ومَن لَم يُكَفَّن بنسيان ما مات مِن ماضيه كان هو كَفَنًا لمَآتي الماضي. وها أنا الآن أسيرةٌ لمُعاناتي وعَبدَةٌ لشهواتي التي أطَعتُها مثل الخَمر والحشيش. أصبَحَ المَوت في عَينَيّ والشوق في قلبي والخُلُود في رُوحي. لا أرى مِن الحياة سوى ظِلّها وأقيمُ في أوهامي صَنَمًا للرجال، وأحاولُ إرجاع قلوبهم النابضة بالحُبّ والحَنان وبالمَشاعر والأحاسيس والتي باتت في قبور الرّجوليّة والشخصية المُزَيّفة. هؤلاء الرجال الذين حَجَبوا أنفسهم عن مأساة حَياتي فحَجَبَت الحياة مَسَرّاتها عن نفوسهم.

   31 أين هو الرجل رَفيق نفسي الذي فَقَدتُه، ونصفي الآخَر الذي انفَصَلتُ عنه عندما حُكِمَ عَلَيّ بالمَجيء الى هذا العالَم؟ أصبَحَ الرجل بالنسبة لي صَديقًا وعَدوًّا، صَديقًا إذا تَمَكّنتُ مِنه وعَدُوًّا إذا تَمَكَّنَ مِنٌي. صَديقًا إذا فَتَحتُ له قلبي وعَدوًّا إذا وَهَبتُ له قلبي. صَديقًا إذا أخَذتُ مِنه ما يُوافِقني وعَدُوًّا إذا وَضَعتُ نفسي في الحالة التي تُوافِقه. مَلِلتُ الرجال. فالمَلَل هو نهاية وخاتمة كل أنثى. المَلَل هو الإحتِضار في صورة النعاس والمَوت في شَكل النّوم. وبَعد تجربتي مع الرجال أصبَحتُ أدرَى بالرجال مِنهم بنفوسهم: أرى بلَمحَة واحِدة ما في ضمائرهم وأفكارهم وقلوبهم وتصرّفاتهم الغريزية. عَبَثًا أحاول الدُّنوّ مِنهم بوَاسطة الكلام الخادِع والتصَرّفات المُصطَنَعة. فأنا لا ولن أصغي الى ما يَقولونه ولن أنظر الى ما يَفعلونه ويَتَصَرّفون به مَعي، بل سوف أسمع ما لا يَقولونه وأرى ما لا يَتَصَرّفون به. وإذا جُرِّدَت الرجال مِمّا تَعَلّق بهم مِن الزوائد الشكليّة والإجتماعية وَجَدتُهم رَجلًا واحِدًا. لَقَد أُعجِِبوا بجَسَدي وهو روحي الظاهرة ولم يَشعروا بقلبي وروحي اللّذين هما جَسَدي الخَفي. فالزهرة والعِطر شيء واحد. فالرجال تَمَتّعوا بشكل ولون زَهرتي ولكنّهم لم يَشُمّوا رائحتها.

   32 ومِرآة قلبي وَنفسي لا تَعكس سوى ما انتَصَبَ أمامها مِن رجال مُختلفة ومِن تَصَرّفاتهم المُختلفة. ولو شاءت لمَا استطاعَت. فالنّور لا يُلقي على الأرض ظِلّ شَيء لا كَيان له، ولو شاء النّور لَمَا استطاع. والإيمان بالشيء هو المَعرفة بهذا الشيء ذاته. والمُؤمن يَرَى ويُدرِك ويَختَبِر الحَقائق بحَواس تختلف عن الحَواس التي يَستخدمها الناس. والمَرأة لم تَحجُب وتَكبُت مَشاعرها عن الرجال ولكنّ الرجال حَجَبوا وكَبَتوا مَشاعرهم عنها. فالزهور كلّها تَمضي ولكنّ البذور تَبقى لتنبت زُهورًا. وهكذا لَبستُ الصّبر ثوبًا فالتَهَبَ، وفَرَشته وِسادَة فانقَلَب. ويا قلبي أقولُ لكَ أنّ تَكَتُمَ هَواك وتُخفي الذي تَشكوه مِن الرجال عَمّن يَرَاك. ولا تكون كالأحمَق فالصّمت والكتمان أحرى بمَن يَعشق. وإن شئتَ أن تعرفَني، إرفع عُيونك الى السماء وراقِب وَجهَكَ في المِرآة صُبحًا ومَساءً. ففي حياتي مَنزل للحُبّ وفي قلبي مَعبَد للسّلام. ومَن تَغَذّى مِن طعامي لا يَخشى أن يَذوقَ أحلامي. كان لي بالأمس قلب مُفعَم بالحُبّ فأراح الناس مِنه واستَراح. ذاك فَصل مِن حياتي قد مَضَى بين عَذاب وهُموم وبُكاء.

   33 إنّ سُرور الحُبّ وَهمٌ لا يَطول وعُهُود الحُبّ أحلام تَزول. كَم سَهرتُ اللّيل والشّوق والحُبّ مَعي أراقبهما كي لا أنام وأجفاني تَقول: النّوم حَرام. وكنتُ إن هَبَّت نَسَمات العَواطف والمَشاعر أتَلَوّى راقصةً مِن فَرَحي ومَرَحي، أشربُ وأسكَرُ وأخلَعُ ثيابي بدون أن أستحي. هذا كان بالأمس فتَوَلّى كالضباب، والبُعد أخمَدَ مِن قلبي اللّهيب ومَحَى آثار البُكاء والنّحيب. فإذا أنا غَضبتُ فلا تَغضَب أنتَ وكُن مُشفِقًا، وإذا أنا ضَحكتُ فلا تعجب فهذا شأن كل عاشق. ورَغباتي ومُيولي، بصَبري وبكَ تَستَعين، وغابَت عَنّي الأماني قبل أن أبلغَ سنّ العِشرين. وما الحَكيم بالكَلام بل بسِرّ يَنطوي تحت الكَلام. فهو يَعلَم ما يَقول والجاهل يَقولُ ما يَعلَم. وما الجَمال بالأجسام والوُجوه إنّما الجَمال في نُور العُيُون وشُعاع القلوب. وأنا الآن كالثّمَرَة إذا نَضَجَت سَقَطَت واندَثَرَت. إنّ حاجات الإنسان تَتَبدّل ولكِنّ الحُبّ لا يَتَغَيّر، ومِثله رَغبته في أن يُشبعَ الحُبّ حاجاته. لم يَكن طموحي ما بَلَغتُ إليه بل بما أتوقُ الآن للبُلوغ اليه. لقد كان عَقلي إسفنجةً أمّا قلبي فكان جَدوَلًا. وحَقيقة الرجال لم تكن بما أظهَروه لي، بل بما لم يَستَطيعوا أن يُظهروه لي. لذلك أرَدتُ أن أعرفَ كَيانهم الداخلي وإنسانهم الباطن، فلم أصغِ الى ما قالوه لي بل الى ما لا يَقولوه. كلّ الرجال كانوا بالنسبة لي كزجاج النافذة، كنتُ أرَى الحَقيقة مِن خِلالهم، ولكِنّهم يَفصِلوني عن الحقيقة. كنتُ في مُعظم الأحيان أستعير قلوب الرجال ولكن نادرًا ما كنتُ أستطيع الإحتِفاظ بقلوبهم. وكنت أحِبّ رَجُلَين: واحدًا مِن خَيالي، والثاني لم يُولَد بَعد. والرجل الذي لم يَغفر لي هَفَواتي الصغيرة لم يستطع أن يَتَمتّعَ بفضائلي الكبيرة. وكنتُ دائمًا أحلم مع الرجال أن يَتَجَدَّدَ الحُبّ في كلّ يَوم وليلة حتى لا يَتَحَوّل الى شكل مِن قوّة الإستمرار التي تَنقَلِب الى عُبودية، والعُبودية تُدَمّر الحُبّ فالحُبّ هو الحُرّيّة...

   34 وعندما أصبَحَ قَلبي بُركانًا فلَم أعُد أتَوَقّع أن تَزهوَ الأزهار في يَدَيّ. والآن أصبَحَ لي قلبان: قلب يَتَألّم وقلب يَتَأمّّل، أتَأمَّل وأصَلّي الى حَنيني العَميق لأنهض وأكَمِّل جَميع رَغباتي. كنتُ ضَعيفة أتبَعُ الرجل الذي أطمَئنّ الى كلماته الحلوة العذبة والى نظراته الحَنونة، أمّا الآن فأصبَحتُ قَوِيّة مِن خِلال تَجاربي الشخصية مَعهم. لقَد عشتُ الحُبّ النّامي بالألَم، المُتسامي بالشّوق، المُتزايد بالحَنين والمُضمََحِلَّ بالعِناق الأوّل. أنا كنتُ شَبيهة بالحياة، تَتَمَتّع بي كلّ الرجال، وكنتُ أيضًا شَبيهة بالموت فقد قَهَرتُ كلّ الرجال. الرجل يَطلُب المُخاطرة واللَّعِب، وذلك ما يَدعوه الى طَلَب المَرأة، فهي أخطر الألعاب. ولا يُحِبّ الرجل الثمرة إذا تَناهَت حَلاوتها، فهو لذلك يَتوق الى المَرأة لانّه يَستطعم المَرارة في أشَدّ النساء حَلاوة. وفي كلّ رجل يَحتَجِب طفل يَتوق الى اللعب. فلتَعمل النساء على إكتشاف الطفل في الرجل. وليَحذر الرجل المَرأة عندما يَستَولي الحُبّ عليها، فهي تُضَحّي بكلّ شيء في سَبيل حُبّها، إذ تَضمَحِلّ في نَظَرِها قِيَم الأشياء كلّها تِجاه قِيمَته. ليَحذَر الرجل المَرأة عندما يُساورها البُغض لأنّه إذا كان قلب الرجل مَكمنًا للقسوة، فقَلب المَرأة مَكمَن للشّرّ. وسَعادة الرجل تابعة لإرادته أمّا سَعادة المَرأة فمُتَوَقّفة على إرادة الرجل. وقد تَشعرُ المَرأة بقُوّة الرجل ولكنّها لن تفهمها. وليس في حالٕة المَرأة شَيء مُمتَنع، لأنّ المَرأة لا تَبلغ أبعَد مَداها في اجتِذاب القلوب إلّا عِندما تَهجو ذاتها.

           د. انطوان الياس جعجع
             (علم النفس العيادي)
      antoinjaajaa@gmail.com

Comments

Popular posts from this blog